ما أن تطل عيناك على جسده الهزيل الذي أعيته السنون وهو يجلس بين أشجاره ومزروعاته ، حتى تدرك أن من تنظر إليه قد بلغ من العمر عتيا لا يكاد يستطيع التحرك إلا بمد يد العون له.
نضال اليمني "أبو بدر" لا يذكر تاريخ ميلاده ولا يستطيع أن يخمن كم بلغ من العمر ، فذاكرته تخونه في نفسه ولكنها لا تخونه في سرد فصول قصته مع فلسطين ، قصة عشقه وتضحيته من أجل تراب فلسطين ، ولأنه يهمنا أن نعرف كم بلغ أبو بدر من العمر سنترك أحداث حكايته تحدد لنا ولو بالتقريب كم من السنين أخذ الدهر من عمر هذا الرجل.
تعود جذور أبو بدر اليمني إلى قبيلة حمير يمن ، والتي تسكن بالقرب من سد مأرب الشهير الواقع في مدينة مأرب الأثرية في مملكة اليمن القديمة ، وقد كانت القبيلة منقسمة قسمين: قسم للمزارعين ، وقسم آخر للمحاربين ، وأدى اقتتالهم مع بعضهم البعض إلى تدمير السد ، والذي كان شاهدا على حضارة ولدت في القرن الثامن قبل الميلاد.
رحل أبو بدر من اليمن إلى يافا عام 1936م ، وسكن فيها في مكان يطلق عليه "سكنة أبو كبير" ، وكان في ذلك الوقت شابا يافعا يعمل في رعي الأغنام.
أبو بدر يصف المشهد في يافا
التحق أبو بدر بصفوف الفدائيين العرب ، يصف أبو بدر لنا المشهد في يافا بقوله: "في إحدى الليالي وعندما كنا موزعين بين الطرقات والأزقة في يافا بدأت العصابات الصهيونية بالاقتراب من يافا وأطبقت عليها حصارا دام 15 يوما ، استبسل فيها أهلها للدفاع عنها بكل ما يملكون من أسلحة بسيطة ، ولكن ما لبثت أن وقعت يافا تحت الاحتلال الصهيوني وقاموا بتهجير أهلها ".
من يافا بدأت رحلة المعاناة والترحال المستمر ، فقد انتقل أبو بدر إلى القدس باحثا عن أهله ورفاقه في الجيش ، حيث كان يرافقه في القوات العربية التطوعية جنود من المغرب والجزائر والسودان ، وذلك قبيل النكبة الكبرى عام 1948م بأعوام قليلة ، ولكنه لم يجد لهم أثرا في القدس ، فارتحل منها إلى الخليل.
أبو بدر يصل إلى مخيم البريج وسط قطاع غزة
بدأت رحلة الكفاح والمواجهة المباشرة مع عصابات الصهاينة في يبنا ، ويصور أبو بدر لنا أصعب المعارك التي دارت فيها بقوله: "حوصرت يبنا من قبل المدرعات والمدافع الصهيونية ، وتحت ضرب المدفعية خرجنا هاربين إلى المزارع الموجودة في البلدة ، ولكن بعض الجواسيس بلغوا قوات الصهاينة بمكان اختبائنا فحاصرونا ، وحاولنا الهرب وفعلا استطاع بعض الرفاق الهرب ولكن ألقي القبض على الآخرين ، وكنت أنا منهم".
خرج أبو بدر ورفاقه في صفقة تبادل أسرى بين القوات المصرية وإسرائيل بعد توقيع الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1979م ، وقد خرجوا من المعتقلات إلى العريش وهناك بعد جلسات تحقيق مطولة مع الأمن المصري ، تم ترحيل أبي بدر إلى قطاع غزة ، وأول ما وضع قدمه فيها في مخيم البريج وسط القطاع.
أبو بدر يعايش النكبة والنكسة
لدى أبي بدر 5 أبناء ذكور و3 بنات. سُجن 4 من أولاده لدى اسرائيل ولكن أُفرج عنهم جميعا. ابنه الأكبر بدر يعمل مديرا لجامعة صنعاء في اليمن وابنه الثاني نضال موظف في بلدية جباليا ، وتيسير ومحمد عاطلان عن العمل. بناته متزوجات وإحداهن موظفة في مكتب التوجيه السياسي الوطني.
عمل أبو بدر في شبابه برعي الغنم ، وفي غزة احترف مهنة عامل بناء وكان يتقاضى 5 قروش بيوم عمل من الساعة السابعة صباحا وحتى الرابعة عصرا.
سافر أبو بدر إلى اليمن قبل 10 سنوات ، ووجد أن جميع أبناء جيله قد توفاهم الله. عايش أبو بدر معارك واالحروب التي طالت الأراضي العربية، كما عايش النكبة والنكسة التي دمرت الشعب الفلسطيني ، وصولا إلى أكبر النكسات كما يقول الانقسام الفلسطيني.
إذا يمكن القول ومن خلال ما ذكرناه أن أبا بدر وبرغم نسيانه لتواريخ حياته من ميلاده مرورا بكل السنين التي عانى فيها ، إلا أنه ووفقا لأحداث قصته وبتأكيد من ابنه نضال قد جاوز المائة وعشرين عاما.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]