أصدر فضيلة العالم الليبي الجليل الشيخ صادق الغرياني فتوى مؤخرا، هي قديمة جديدة، حول: عدم ذهاب المسلمين لأداء الحج والعمرة للمرة الثانية، أي أن من قام بالحج فقد أسقط الفريضة عنه، وأنه من باب أولى أن ينفق المال فيما يفيد المسلمين، وكموقف سياسي عقابا للقائمين على أمر الحرم، حيث إن المال ينفق في الحرب على شعب اليمن، وليبيا، ومصر، والتآمر ضد حقوق وحريات الشعوب. وثار النقاش حول الفتوى.
بداية قد قلت: إن الفتوى قديمة جديدة، لأن مضمون الفتوى صدر من قبل عن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، ولكن بشكل آخر، وصدرت قبل القرضاوي من أئمة كبار نذكر منهم: الإمام الجويني، والإمام أبو حامد الغزالي.
الجماهير كانت أسبق من المشايخ في الفتوى:
والحقيقة: أن جمهور المسلمين كانوا أسبق من الشيخ الغرياني ومنا جميعا في هذه الفتوى، فمنذ سنوات، منذ أن برز دور السعودية والإمارات في دعم الانقلابات في بلاد الربيع العربي، وأستطيع أن أرصد عشرات الأسئلة من أشخاص عاديين، يتصلون ويسألون في برنامجي (يستفتونك)، وهي مكالمات بالاسم والدولة والصوت، يسألون: أليس من الأولى أن نقاطع الحج، لأن السعودية تستخدم مال الحج في إلحاق الضرر بالمسلمين، وأن المال الذي ندفعه للحج، ينتهي في النهاية ليوضع في خزينة (ترمب) في أمريكا، فكانت الناس تسأل عن الفريضة وليس النافلة، كما في فتوى الغرياني.
الإمام الجويني وفتوى المنع من الحج:
والإمام الجويني الفقيه الشافعي المعروف، وأحد رواد الفقه السياسي في تراثنا الإسلامي، في أحد كتبه، وهو من أهم كتب السياسة الشرعية، والفقه السياسي بوجه عام، وهو كتابه: (الغياثي)، تعرض لمسألة تحت عنوان: "حكم خروج نظام الملك للحج" ونظام الملك هو الحاكم في زمانه، وقد كانت هناك خطورة ربما تعرض لها الحاكم عند سفره للحج، فأفتاه الإمام الجويني بعدم ذهابه، نظرا لما يحف الرحلة من مخاطر، فكان مما أصله الفقيه الكبير قوله:
(وقد أجمع المسلمون قاطبة على أن من غلب على الظن إفضاء خروجه إلى الحج إلى تعرضه أو تعرض طوائف من المسلمن للغرر والخطر، لم يجز له أن يغرر بنفسه وبذويه، ومن يتصل به ويليه، بل يتعين عليه تأخير ما ينتحيه، إلى أن يتحقق تمام الاستمكان). [1]
وبين له أنه متى انتفت الموانع التي تحيق بأمانه، والعلل التي تمنع الذهاب للحج، فعندئذ يحق له الذهاب. والملاحظ هنا أن الإمام الجويني والفقهاء تكلموا كثيرا في أمن الحاج من حيث قطاع الطرق، ولم ينتبهوا إلى نوع جديد من قطع الطريق على الحاج، وهو ما تمارسه بعض الدول في ذلك، من منع التأشيرات عن المعارضين لها، وهو تسييس لشعيرة، فضلا عن استخدام المال في الإضرار بالمسلمين.
الإمام الغزالي وفتوى إنفاق مال حج النافلة على الفقراء:
وقد تكلم الإمام الغزالي في كتابه: (إحياء علوم الدين) في باب: ذم الغرور، وأصناف المغرورين، وتحدث عن غرور أصحاب المال، وآفة ذلك وضرره عليهم، وعلى عبادتهم، وأن إنفاق مال حج النافلة على فقراء الأمة، أولى من ذهابهم للحج، فقال: (يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعا ولذلك قال ابن مسعود في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه.
وقال أبو نصر التمار: إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء، فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم، قال بشر: فأي شئ تبتغي بحجك: تزهدا، أو اشتياقا إلى البيت، أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله. قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال: نعم. قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف، أفضل من مئة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك، وإلا فقل لنا ما في قلبك.
فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه ألا يقبل إلا عمل المتقين). [2]
فتوى القرضاوي بإنفاق مال الحج على المقاومة وقضايا الأمة الكبرى:
أما فتوى القرضاوي في موضوع الحج، وبخاصة حج النافلة، فقد كانت أسباب فتواه: أن الحج لما بعد حج الفريضة، أو تكرار العمرة، هو إهدار لمال يمكن أن يكون له مصرف آخر أنفع له، وبخاصة في ظروف حالكة يعيشها المسلمون، والمال ينفعها في هذا الأمر، وبخاصة أن الحج للمرة الثانية أو العمرة، هي نافلة، وليست فريضة، وهناك ما يسمى في الفقه الإسلامي: فروض الكفاية، وهي أحق وأولى بمال المسلمين من أن تستهلك في النوافل.
يقول القرضاوي: (وفي موسم الحج من كل عام أرى أعداداً غفيرةً من المسلمين الموسرين يحرصون على شهود الموسم متطوعين، وكثيراً ما يضيفون إليه العُمرة في رمضان، ينفقون في ذلك عن سخاء، وقد يصطحبون معهم أناساً من الفقراء على نفقتهم، وما كلَّف الله بالحج ولا العُمرة هؤلاء.
فإذا طالبتهم ببذل هذه النفقات السنوية ذاتها لمحاربة اليهود في فلسطين، أو الصرب في البوسنة والهرسك، أو لمقاومة الغزو التنصيري في إندونيسيا، أو بنجلاديش، أو غيرها من بلاد آسيا وإفريقيا، أو إنشاء مركز للدعوة، أو تجهيز دعاة متخصصين متفرغين، وتأليف أو ترجمة ونشر كتب إسلامية نافعة، لوَّوْا رؤوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
هذا مع أن الثابت بوضوح في القرآن الكريم أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج. كما قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم لآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون. يبشِّرهم ربهم برحمةٍ منه ورضوانٍ وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ) التوبة: 19 - 21.
هذا مع أن حجهم واعتمارهم من باب التطوع والتنفل، أما جهاد الكفر والإلحاد والعَلمانية والتحلل، وما يسندها من قوى داخلية وخارجية، فهو الآن فريضة العصر. وواجب اليوم). [3]
فهمي هويدي: إنقاذ أهل البوسنة مقدم على الحج:
وعندما جاءت أحداث البوسنة والهرسك، واحتاج المسلمون لمقاومة الصرب إلى المال، والمعاونة، والإغاثة، كتب الأستاذ فهمي هويدي مقالا مفصلا في جريدة (الأهرام) المصرية، حوالي سنة 1992م، قبل موسم الحج، في مقال الثلاثاء الأسبوعي، يقول للمسلمين بصراحة: إن إنقاذ البوسنة مقدَّم على فريضة الحج!
القرضاوي يؤيد هويدي:
وقد عقب القرضاوي على دعوة هويدي فقال: (وقد سألني كثيرون ممن قرأوا المقال (أي مقال هويدي) عن مدى صحة هذا الكلام من الناحية الشرعية والفقهية. وقلت لهم حينذاك: إن لكلام الكاتب وجهاً صحيحاً ومعتبراً من ناحية الفقه، فإن من المقرر شرعاً: أن الواجبات المطلوبة فوراً مقدَّمة على الواجبات التي تحتمل التأخير. وفريضة الحج تحتمل التأخير، وهو واجب على التراخي عند بعض الأئمة. أما إنقاذ البوسنة من هلاك الجوع والبرد والمرض من ناحية، ومن خطر الإبادة الجَماعية التي تُحضَّر لها من ناحية أخرى، فهي فريضة فورية ناجزة، لا تقبل التأخير، ولا تحتمل التراخي، فهي فريضة الوقت، وواجب اليوم على الأمة الإسلامية كلها.
ولا ريب في أن إقامة شعيرة الحج، وعدم تعطيل الموسم فريضة أيضاً لا نزاع فيها، ولكنها تتم بأهل الحرمين ومن حولهم ممن لا يكلفهم الحج كثيراً من النفقات.
فليت الذين يتطوعون بالحج - وهم الأكثرية! - ومثلهم الذين يتطوعون بالعمرة طوال العام، وخصوصاً في شهر رمضان، يتنازلون عن حجهم وعمرتهم، ويبذلون نفقاتهما في سبيل الله، أي في إنقاذ إخوانهم المسلمين والمسلمات، الذين يتعرضون للهلاك المادي والمعنوي، وللعدوان الغاشم، الذي يستبيح كل حرماتهم، ولا يريد أن يبقي لهم من باقية، والعالَم المتقدم: يرى ويسمع، ولا يحرك ساكناً! لأن الغلبة لحق القوة، وليس لقوة الحق!
ولو صح الفهم، وصدق الإيمان، وعرف المسلم معنى فقه الأولويات، لكان عليه أن يشعر بسعادة أكبر، وروحانية أقوى، كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج مشروعاً إسلامياً، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين، أو يؤوي المشردين، أو يعالج المرضى، أو يُعلِّم الجاهلين، أو يُشغِّل العاطلين). [4]
الامتناع عن الحج عقوبة للسلطة الظالمة:
أما فتوى الشيخ الغرياني الآن، فقد تناولت دعوة المسلمين للامتناع عن الحج الآن، لأسباب تتعلق باستخدام مال الحج في الإضرار بالمسلمين، وبمصادرة حرياتهم، والتمكين للاستبداد، فهي دعوة للامتناع عن معاونة السلطة الظالمة، حيث تستخدم ما يأتيها من أموال المسلمين العامة، سواء عن طريق الحج، أو النفط، أو المال العام الذي هو شأن عام للأمة كلها، تستخدمه فيما يضر بها وبمصالحها، كما رأينا في الانقلاب على ثورة اليمن، ومصر، وليبيا، وسوريا، وغيرها من الدول.
وهي فتوى تنطلق من نصوص شرعية، لعل أهمها، قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة: 2، وقد ناقش الفقهاء كثيرا قضية إعطاء الزكاة للحاكم الظالم، ومنعوا ذلك، لأنها تعينه على ظلم الناس، وتبديد مقدراتهم وممتلكاتهم العامة. وكذلك ناقش الفقه الإسلامي الجنائي قضية الجريمة الإيجابية، والجريمة السلبية، والعقوبة عليهما، فمن مارس الجريمة بنفسه فهي جريمة إيجابية، ومن امتنع عن فعل المأمور به، أو عاون بصمته على الجريمة، فقد مارس ما يسمى بالجريمة السلبية، وكلتا الجريمتين: الإيجابية والسلبية، لهما عقوبة في الإسلام.
كما أن هذا الموقف من عموم الأمة يشعر السلطة الظالمة، أو التي تنفق مال الأمة في ضررها، أن الأنظمة قد تملك الأسلحة والمال، والقوة الخشنة، ولكن الشعوب تملك القوة الناعمة، وسلطة عدم احترامها، ومقاطعتها وعدم التعاون معها، حتى ينصلح حالها، أو تثمر المقاومة السلمية معها.
لقد حركت فتوى الشيخ الغرياني الماء الراكد في مسألة مهمة، وأعتقد أن تجاوب الناس معها، يحتاج إلى وقفة من علماء الأمة، ومؤسساتها، لتفعيل الفتوى، والعمل على ترشيدها، وإيقاظ الأمة وتنبيهها لقوتها الناعمة التي تجعلها تكسر حاجز الخوف والسلبية، وهو ما ستسفر عنه الأيام إن شاء الله.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]