أعترف بأن العاطفة تجمعني بفلسطينيي 48 المقيمين في وطنهم وهم يكافحون من أجل العيش، ويقاومون المحتل. أن يكون لهذه المقاومة وجهها الثقافي فهذا فعل إيمان بضرورة الحفاظ على شعلة التواصل مع الجذور، ومع اللغة العربية متقدة دائماً. وكذلك إحياء الفنون من فولكلور وتراث يجمع بين الرقص الشعبي والغناء، إلى سواه من السينما والمسرح.
بفعل الاستطلاع تعرّفت إلى مسرح السرايا – يافا – فلسطين، وكان بصدد تقديم فعاليات مهرجان المرأة “يافوية” في الرابع في بداية الشهر الجاري، وجرى حوار مع مديرته ومنتجته كفاح عبد الحليم هنا تفاصيله:
*مهرجان المرأة “يافوية” الرابع أنجز فعالياته رغم تراجع العديد من المهرجانات حول العالم بسبب كورونا. كيف تشجعتم؟
**لاحظنا عودة الفعاليات الثقافية ومضينا بمهرجاننا السنوي ملتزمين إجراءات الحماية المرعية في كافة المسارح والقاعات، وهي التباعد والعدد المحدد من الجمهور، واعتماد الفضاءات الخارجية. والفعاليات غير القابلة للعرض الخارجي تمت أونلاين. في الواقع خشينا عدم حضور الجمهور بسبب كورونا وكانت المفاجأة معاكسة. حضر جمهور جميل جداً وفي كافة الفعاليات والأيام. بدا وكأنه تعطش وانتظر عودة نشاطنا الثقافي من الأفلام، والمسرحيات والموسيقى. كذلك حال الفنانين الذين أقصتهم كورونا عن العمل، كانوا بانتظار فرصة للتواصل مع الجمهور.
*مهرجان المرأة “يافوية” جزء من فعاليات مسرح السرايا – يافا فما الذي حتم إطلاقه؟
**مسرح السرايا هو المسرح الرسمي الوحيد الذي يواصل العمل بعدما اقفلت مسارح أخرى نتيجة الأزمة الاقتصادية، وأقفل مسرح الميدان في حيفا بعد ملاحقته سياسياً. ونحن في مسرح السرايا نعاني من حين لآخر حملات سياسية وملاحقة نتيجة استضافتنا لفنانين يعتبرهم اليمين متطرفين أو إرهابيين. ورغم الحملات لا يزال المسرح مفتوحاً، ونشاطه إلى إزدهار وتقدم على صعيد الإنتاج والموازنة. مهرجان المرأة يافوية ينعقد للسنة الرابعة على التوالي، وكان لزاماً بقاء التواصل مع الجمهور. وكذلك المثابرة في تأكيد هدف المسرح والمهرجان بتشجيع النساء على ارتياد المسرح وأن يكنّ مستهلكات للثقافة. هدفنا تعزيز وعي النساء في الواقع الذي نعيشه، فهذا يؤهلهن لأن يكنّ مفتاحاً لتغيير في مجتمعنا. كمثال نعيش أزمة كبيرة جداً على صعيد اللغة العربية في يافا. وإن تمكن المهرجان من تعزيز تواصل النساء من أمهات وأخوات وصبايا مع اللغة العربية، فهن سيعملن على بث هذا الوعي بأهمية لغتنا حيث يكنّ، وعلى نطاق واسع أو ضيق من حيث نشر واستخدام العربية. ولهذا نركز على الجمهور النسائي من حيث تمكينهن على المستوى الثقافي والشخصي والثقة بالذات. ومن أهدافنا أيضاً تشجيع المبدعات الفلسطينيات، وفعاليات المهرجان منذ انطلاقه تحمل توقيع مخرجات، ومغنيات وممثلات. وهنّ من فلسطين 48 إلى جانب مشاركات من الضفة وغزة، وأحياناً من الشتات. طموحنا كمسرح عربي مركزي في يافا تحديداً، تشكيل حلقة وصل بين الجمهور النسائي والمبدعات في مختلف المجالات النسائية.
*هل تتكرر الفعاليات ذاتها سنوياً بين مسرح، وغناء، وسينما وفنون شتى وندوات؟
**نحن حيال فعاليات متعددة من مسرح وسينما وموسيقى وفي أحيان معارض فنية. نحرص سنوياً على تنظيم ندوة تناقش جوانب اجتماعية واقتصادية متعلقة بمكانة النساء في المجتمع. ندوة هذا العام ناقشت دور المرأة في المطبخ وإن كانت ستبقى محصورة ضمنه؟ تبين أن النساء استثمرن في المطبخ، وصارت لديهن مشاريع ناجحة في مجال الأكل والضيافة. وبتن من الشخصيات النافذة في مجتمعاتهن. نحن كمهرجان حاولنا التعاطي مع المطبخ من منظور مختلف، وتواجد في مسرحية وفي فيلم وثائقي. بات المطبخ والطعام حاضراً كمشروع بحثي وفني ولهذا تتم مناقشته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. في حين كان عنوان المهرجان في سنته الثانية العنف ضد النساء، بعد أن قتلت ست نساء في مرحلة متزامنة في مناطق يافا واللد والرملة. وفي كافة دورات المهرجان لا نتجاهل موضوع العنف لأنه دائم على النساء. وهذا العام حضر موضوع العنف إلى المهرجان بدون قصد منا. وبعد التدقيق في البرنامج وجدته في عرضين مسرحيين وفي العرض الراقص فعاليات أخرى. كذلك العنف والقتل بشكل عام في المجتمع العربي نتيجة انتشار السلاح. ودخول هذا الموضوع إلى فعاليات المهرجان حتى من الباب الخلفي دليل على الواقع الأليم الذي يعيشه مجتمعنا اليوم، ومن الصعب تجاهله.
*وما هي العوامل المؤثرة في الاختيار؟
**إلى هذه الاعتبارات من تمكين النساء والتعاطي مع المرحلة نشدد على تعزيز الهوية واللغة العربية، وتواصل الناس مع ثقافتهم وتراثهم، وهو من الثوابت. موسيقياً، وفي السنوات الثلاث السابقة كانت العروض الختامية لفنانات يركزن في أعمالهن على الأغنيات التراثية مع توزيع جديد، وهنّ سناء موسى، وريم تلحمي ودلال أبو آمنة التي وصلت إلينا مع مجموعة كبيرة من السيدات، وقدمت عرضاً غنائياً رائعاً من التراث. فهذه المشاريع الفنية تحافظ على تراثنا الغنائي. في كل دورة نحاول التعاطي مع التراث من جانب فني مختلف بينها معرض الرسومات. وفي هذا المهرجان ركزنا على لغتنا العربية، نشرنا المعلومات بها ونطقنا بها. وفي كل عام نلمس تهديداً إضافياً للغتنا، ونسبة كبيرة من المجتمع المحلي في يافا ومحيطها يجدون صعوبة في قراءتها. ولأن منشوراتنا بالعربية والبعض يصعب عليه فهمها اعتمدنا طريقة تصوير فيديوهات قصيرة للدعوة إلى المشاركة. فيافا تعرّضت لسياسة ممنهجة بهدف محو الهوية العربية. وفي أي زيارة للمدينة نلمس سيطرة العبرية، ليس فقط بالافتات والأمور الرسمية بل على ألسنة الناس وأقصد الفلسطينيين. أن نركز على المحتوى العربي في المهرجان فهذا نوع من رسالة. فاللغة ليست وسيلة فقط بل هوية وثقافة.
*وهل من نشاط يتكرر في كل دورة؟
**نعم فعاليات المسرح والسينما دائمة، وكذلك تكريم شخصية نسائية أصلها من يافا. والتكريم يتيح للشخصية إعادة التواصل مع جذورهن، وخاصة اللواتي أصبحن لاجئات بعيداً عن يافا، كما الكاتبة والمعمارية سعاد عامري التي شرفتنا بحضورها. تأثرت وانفعلت لدى حضورها إلى مدينتها يافا، قرأت للجمهور بعضاً من نصوصها، وحكت ذكريات عن وطنها عرفتها من والديها. وفي العام الماضي كرمنا الكاتبة المحلية شيخة حليوى والتي حصلت مؤخراً على جائزة القصة القصيرة على مستوى العالم العربي. نسعى لتوازن في فعالياتنا الثقافية بحيث لا تغلب عليها النخبوية، خاصة وأن جمهورنا يتنوع بين أكاديميين ومثقفين وشباب. تكريمنا للشخصيات النسائية اليافوية في جزء منه يهدف لإلهام النساء على مزيد الإنتاج، وبناء تواصل معهن.
*ما هي العوامل التي ساهمت بترشيح فيلم “ألف مثلي” الأفغاني للعرض هذا العام؟
**نوازن في العروض السينمائية بين المحلي والعالمي. عرضنا فيلم المخرجة المحلية ساهرة الدرباس “على عتبة الدار” والفيلم الأفغاني، وآخر لمخرجة فرنسية عنوانه “فلسطينيات” وكان في عرضه الأول خارج فرنسا. ولأننا معنيون بالعنف ضد المرأة وبالتحرش كان فيلم “ألف مثلي” فـ”خاطرة” بطلة الفيلم الوثائقي بطلة حقيقية لجرأتها في دخول المحكمة كأول امرأة في أفغانستان تقاضي والدها الذي تمادى في اغتصابها. هي نموذج يشجع النساء على الكلام ورواية قصصهن. شكل الفيلم فرصة للنساء كي لا يبقين ضحية ويشعرنّ بالمسؤولية عن الخطأ الحاصل.
*ما هي التحديات الأساسية التي يواجهها أي نشاط ثقافي عربي في فلسطين المحتلة يهدف لتأكيد الهوية؟
**إنها معركة يومية في يافا حول لغة الناس وهويتهم وثقافتهم. بين فعالية وأخرى، ومهرجان وآخر يخوض مسرح السرايا معركة حقيقية. في السنتين الأولتين كان الحضور غير مرضٍ. المثابرة وتنوع الفعاليات في المسرح على مدار العام، وأيضاً فعاليات المهرجان ترك الجمهور يعتاد الحضور، وخاصة لمتابعة الإنتاجات المسرحية. سعينا دؤوب لتقديم إنتاج ثقافي عربي فلسطيني يحظى بحضور الجمهور. نهدف لإيصال رسالة الفنانين وأعمالهم، وأن يشعر الجمهور بأن المسرح له. نحن نعاني من قلة عدد الفلسطينيين في محيط يافا، بعكس شمال الجليل ومنطقة حيفا. بحر من البلدات اليهودية تحيط بيافا واللد والرملة، والفلسطينيون يستسهلون النطق بالعبرية مما يشكل خطورة كبيرة على هوية المكان والمجتمع. لهذا أقول وبحق أن كل مهرجان نقيمه يشبه معركة صغيرة نخوضها على هوية الناس الذين نقدم لهم هذه الثقافة.
*هل تسعون لتشبيك ثقافي عربي أو أجنبي داعم لفلسطين ولو عبر الفضاء الافتراضي؟
**لدينا تعاون مع مبدعات فلسطينيات ليس فقط من الداخل بل كذلك من الضفة، وأيضاً لاجئات في الشتات. جزء من أهداف المهرجان حضور النساء والتواصل مع فنانات فلسطينيات لم يعرفن سابقاً بوجودهنّ، رغم كوننا نتشارك وإياهن الهوية والثقافة. إنما الأمور تزاد صعوبة عاماً بعد عام في تحضيرنا للبرنامج والضيوف، فحملة المقاطعة BDS ترتفع وتيرتها والرافضات للمشاركة في المهرجان يتزايدن. عملياً يوجه المهرجان الدعوة لفنانات فلسطينيات، وليس عربيات، كوننا ندرك الواقع الذي يحتم عدم التطبيع. نهتم جداً بالواقع الفلسطيني – الفلسطيني، وأن يتعرّف الفلسطينيون في الداخل إلى المبدعات اللاجئات خارج البلاد والفن الذي يقدمنه. سنوياً يزداد عدد المعتذرات عن الحضور خشية من وصمة التطبيع. كمديرة للمهرجان أتفهم تماماً وأتقبل كل موقف. إنما هو موقف يتضمن اشكالية في صلبه. نحن في مسرح السرايا – يافا بصدد معركة يومية نخوضها لتعزيز هويتنا العربية وثقافتنا في محيط يهودي طاغي. والأمور تزداد صعوبة في حصولنا على نتاجات ثقافية وفنية فلسطينية عربية تساهم في تأكيد أهداف مهرجان المرأة يافوية. الأدوات والمستوى المطلوب يتضاءل بين يديّ كمنتجة، لهذا يغلب المحتوى المحلي على سواه. لا أنتقص من أهمية المنتج الثقافي المحلي مطلقاً، لكني أسعى لجسور تواصل واطلاع ثقافي بين مكونات الشعب الفلسطيني أينما تواجد. هذا العام توجهت إلى مخرجة فلسطينية تقيم في الخارج، عبّرت بلطف عن رغبتها بالحضور والمشاركة، وخشيتها من تصنيف خطوتها تطبيعاً ومن حملة تُشنّ ضدها، جعلها تعتذر. نحن فلسطينيو 48 ندعو لتفهم خصوصية وضعنا. وحين نفقد تواصلنا الثقافي مع جذورنا في الشتات سننكمش ونصغر تباعاً. كمنتجة ومن خلال مؤسسة مسرح السرايا، نقرأ التمنع ليس في صالح تعزيز الهوية الفلسطينية لسكان يافا، ولعرب 1948 عامة.
*وكيف ترين الحل؟
**بعد تجربة التحضير للمهرجان في دورته الرابعة المطلوب نقاش مهني جدي بعيداً عن المشاعر والمزايدة، بحيث يخلص لكيفية الحفاظ على التواصل دون أي خرق لـBDS وبمنأى عن أي تطبيع. نحن نحتاج للتواصل مع جذورنا في الضفة وغزة والشتات. نحن معاً نشكل جسداً واحداً وليس لنا قطع أي عضو منه. وهنا لا أنكر المشكلة القائمة على صعيد الشكليات كالسؤال عن من دفع ومن موّل وغير ذلك، إنما المطلوب الالتفات إلى الجوهر والمضمون أولاً. فنحن حيال مسرح وجمهور عربي فلسطيني، ولا أجد سبباً للمقاطعة. لذلك النقاش مطلوب حول هذا الموضوع الحيوي بالنسبة لنا، وأن نطرح السؤال متى نقاطع ومتى لا نقاطع، إنطلاقاً من فهم حاجات المقيمين في الداخل. خارج فلسطين المقاطعة واضحة، وفي فلسطين يجب طرح السؤال أين تفيدنا وأين تضرّ بنا. لذلك أكرر بضرورة النظر إلى احتياجات الناس في حملة المقاطعة. نحن نتألم أحياناً من هذه المقاطعة وخاصة من رفض المبدعين الفلسطينيين، حيث من واجبنا معاً أن نقاتل لتثبيت هوية الناس وتعزيز ثقافتهم. لهذا المطلوب نقاش جدي وأخوي فلا نحن لدينا نوايا سيئة، ولا بعض الفنانين الرافضين لدعواتنا أيضاً.
نقلاً عن القدس العربي / زهرة مرعي
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]