وصف الشاعر العراقيُّ الكبير محمد مهدي الجواهري مدينة يافا، في حديث إذاعيٍّ له عام 1989م قائلا: “كنت قد زرت يافا أجمل ثغور العرب مرة واحدة. ونتيجة لهذه الزيارة فما زلت أشعر بالحسرة والألم لفقدان هذه المدينة العربية الجميلة، وأعتقدُ أنَّ كلَّ من زارها يشعر بما أشعر به من الحسرة والألم، وأقول إن من لم يزرها هو محظوظ، وكان الله في عون أهالي يافا”. وقال المؤرخ المقدسيُّ المعروف عارف العارف عن مدينة يافا، عروس فلسطين، “خَسِرَ العرب بسقوط يافا، مدينة من أقدم مدنهم تاريخاً، وأخصبها أرضاً، وأغناها مالا وثقافة ورجالاً”.
يافا المدينة مزدهرة التي تعرف باسم “عروس فلسطين”، كانت أكبر المدن العربية الفلسطينية الانتدابية من الناحية الديموغرافية، وكان يسكنها أكثر من تسعين ألفا عشية النكبة، وعدد سكان القرى القريبة والتي اعتبرت قضاء يافا ما يقارب 40 ألف نسمة. هي أحد أقدم وأهم مدن فلسطين التاريخية، تحتل موقعاً متميزاً على ساحل البحر الأبيض المتوسط حيث الطبيعة الخلابة والهواء النقيّ.
ورغم أن القدس هي العاصمة الفلسطينية، إداريا ودينيا، إلا أن موقع يافا الاستراتيجي، ووجودها على البحر، وميناءها المهم، جعلوا منها مركزا اقتصاديا وثقافيا هاما على صعيد الوطن الفلسطيني قبل عام 1948، حيث كان فيها الصحف ودور النشر والصناعة والميناء الدولي والتجارة على المستوى المحلي الوطني والمستوى.
من الناحية الاقتصادية، كانت مدينة يافا قلب فلسطين النابض، فمنذ بدايات القرن التاسع عشر، تطور في مدينة يافا حقل اقتصادي جديد، وضع يافا في مكانة مرموقة في السوق الاقتصادي العالمي. كان هذا الحقل عبارة عن زراعة بيارات حمضيات بشكل عام والبرتقال بشكل خاص. كان تطور هذا الحقل الاقتصادي سريعًا جدًّا، حيث وصل إلى تصدير عشرات الملايين من صناديق الحمضيات سنويًّا في الثلاثينيات من القرن الماضي.
هذه المدينة المزدهرة الجميلة، “عروس فلسطين”، تحولت بين ليلة وضحاها، إلى حي صغير وهامشيّ يعاني التمييز والجريمة والتدمير منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا. ففي الفترة ما بعد قرار التقسيم الصادر في 29 نوفمبر 1947 ونكبة فلسطين في 15 أيّار عام 1948، طردت العصابات الصهيونية ما يزيد عن 95% من سكان مدينة يافا العرب أصحاب البلاد الأصليين، وهي ما زالت تمنع عودتهم حتى يومنا هذا. شكّل اليافيون أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين، وهم اليوم منتشرون في كافة بقاع الأرض.
التهجير والمجازر
لم يكن في مدينة يافا في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 يوم أن أوصت اللجنة الخاصة بالأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وإدراج يافا ضمن حدود الدولة “اليهودية”، سلاح أو مقاتلون مدربون تدريبا صحيحاً. فقد كانت سلطات الانتداب البريطاني تحول بالقهر والقوة بين عرب فلسطين واقتناء السلاح أو التدريب عليه. وكان تنظيم الدفاع عن المدينة أمراً صعباً بسبب موقعها. ففي الشمال مدينة تل أبيب، أكبر تجمع سكاني لليهود، وفي الجنوب مستعمرات بات يام وحولون، وفي الشرق مستعمرة نيتر الألمانية، وفي الغرب البحر المتوسط.
هبّ سكان يافا يبحثون عن السلاح في كل مكان. وقد بدأ الأمر بجهود فردية ثم جرى تشكيل لجنة قومية للمدينة بإيعاز من الهيئة العربية العليا. وأخذت هذه اللجنة على عاتقها الإشراف على شؤون الدفاع والاعداد، ثم أرسلت اللجنة العسكرية في دمشق 100 بندقية فرنسية إلى يافا بتاريخ 13/12/1947.
جرت بين سكان يافا والصهيونيين اشتباكات صغيرة كان أولها اشتباك بعض المناضلين مع مجموعة من الصهيونيين بين تل الريش ومستعمرة حولون وقتل عدد من رجال المجموعة بينهم قائدها. ثم قامت العصابات الصهيونية بنسف دار الحكومة فقتل من جراء ذلك عشرة من العرب وجرح كثيرون. وقد أثار هذا الحادث الأهالي فأزال الخلافات التي كانت قائمة بين التنظيمات والهيئات، وظهر الجميع متماسيكن، ونشطت أعمال اللجنة القومية وتألفت لجان فرعية للقيام بمختلف الشؤون الإدارية والمالية والعسكرية.
اشتبك المجاهدون مع العصابات الصهيونية في معارك متلاحقة وقعت على حدود المدينة ودامت شهرين ونصف اعتبارا من 4/12/1947. وكان عدد العصابات الصهيونية المقاتلين في تل أبيب لا يقل عن 5000 مقاتل. وكانت تل أبيب تضم حوالي مئتي ألف من السكان اليهود. واعترف مناحيم بيغن زعيم عصابة “الأرغون” وقتها بأن تل أبيب قاست خلال هذه الفترة من يافا ومن حي المنشية بسرطان ملتصق بتل أبيب قائلا: “إن القناصة العرب كانوا يرسلون الموت إلى كل مكان. وقد وصل رصاصهم الفتاك حتى العمارة التي تعمل فيها بلدية تل أبيب”.
وفي 31 آذار وقعت معركة بين المجاهدين والعصابات الصهيونية غنم فيها المجاهدون عدداً من السيارات والمصفحات. وفي 13 نيسان قامت العصابات الصهيونية بهجوم كبير على تل الريش وتوغلوا فيه، ولكن العرب أخرجوهم منه. ثم أعادت العصابات الصهيونية الكرّة يوم 24 نيسان فهاجموا المنشية واحتلوا محطة السكة الحديدية ومركز الشرطة. واستمات العرب في الدفاع عن هذه المواقع وقاموا بهجمات مضادة تمكنوا فيها من طرد الصهاينة. وجدد الصهاينة الهجمات في 25، 26، 27 نيسان بقوات كبيرة تساندها مدافع الهاون، واقتربت طلائعهم من الاستحكامات العربية وتمكن حماة يافا من صد هذه الهجمات. لكن العصابات الصهيونية قاموا يوم 28 نيسان بهجوم كبير من جهة تل الريش، وهجوم آخر من المنشية تساندهم المدرعات، ودارت معركة طاحنة تمكن فيها المجاهدون في تل الريش من صد الصهيونيين فارتدوا تاركين حوالي 25 قتيلا وبعض العربات.
أما في المنشية فقد استطاعت العصابات الصهيونية احتلال الحي فأخذ السكان يغادرونه. وبينما كانت المعركة على أشدها أقال قائد جيش الإنقاذ قائد الحامية المقدم عادل نجم وعيّن لهذه المهمة الرئيس ميشيل العيسى، وهو من أبناء يافا وكان أمراً لفوج أجنادين من جيش الإنقاذ، فوصل إلى يافا مع فوجه المؤلف من 247 مقاتلا يوم 28/4/1948 وشق طريقه بالقوة ودحر الصهاينة الذين كانوا يتمركزون على طريق تقدمه. وأخذ يحاول اتخاذ تدابير للدفاع والصمود في موقف عسكري يميل لصالح العدو الذي احتل عدداً من القرى العربية القريبة من يافا، وقطع طريق يافا-القدس من موقع نيتر وعمارة حزبون، وبذلك انقطع كل اتصال بين يافا والقرى العربية الشرقية وبينها وبين الرملة ومطار اللد.
وفي أوائل آيار 1948 أخذ الموقف يزداد سوءا فعمّ الخوف والاضطراب وظهرت بعض حوادث الفوضى وأخذ الناس يغادرون المدينة إلى غزة عن طريق البحر. وقبل ذلك كانت اللجنة القومية تمنع مغادرة أي شخص للمدينة إلا إذا كان بقصد المعالجة الطبية مؤيداً بتقرير طبي.
شدد اليهود هجماتهم على المدينة، وأخذت صيحات الاستغاثة وطلب النجدة تتوالى من يافا، وعز المنجدون، وكثر عدد القتلى والجرحى، وأخذت المقاومة تنهار والناس ينزحون. وفي يوم 13/5/1948 سلم حاكم اللواء الإنجليزي مفاتيح الدوائر الحكومية إلى الحاج أحمد أبو لبن الذي اعتبر مسؤولاً عن المدينة، ووافق العرب واليهود الصهاينة على اقتراح الحاكم بجعل منطقة يافا منطقة مفتوحة. لكن الصهاينة لم يقبلوا أن يتم ذلك بواسطة الإنجليز وأصروا على التفاوض مع العرب مباشرة. وتم التفاوض في تل أبيب ووقعت الاتفاقية يوم 13/5/1948 بين الوفد عن أهالي يافا وقائد “الهاجاناه” في لواء تل أبيب.
لم يحترم اليهود الصهاينة هذه الاتفاقية. فما كاد الانجليز ينسحبون من المدينة يوم 14 آيار حتى اقتحموها بقواتهم ورفعوا الأعلام الصهيونية على مبانيها وسقطت المدينة. وبسقوط يافا تم للقوات الصهيونية إخلاء جميع مدن وبلدات فلسطين الرئيسية وطرد سكانها بعد العديد من المجازر البشعة، ومقاومة أهلها الشرفاء والأبطال لتلك العصابات.
شاهد على النكبة
الحاج مصطفى يعقوب دبابش من سكان مدينة يافا الأصلانيين ومن مواليد عام 1927 هُجر إلى غزة كان شاهدا على نكبة يافا ويتذكر من يافا البحر والميناء والصيد ويسرد الذكريات المؤلمة الحاضرة في ذهنه فيقول: “كان عمري في الهجرة (19 عاما) وتزوجت منذ 3 أشهر فقط. ويافا كانت ميناء وتجمع الناس كلها أصحاب السيارات والعتالين والتجار وكثير من أهل البلد. كانت يافا مشهورة بالحمضيات والناس تشتغل من السنة للسنة ويعبوا البرتقال ويبروه في الصناديق للميناء على البواخر. وحول يافا كانت “المنشية” وتل أبيب و “بيت يام” وكثير من المناطق اليهودية وكنا نعمل مع اليهود وهناك مصالح بيننا وتجارة وعايشين مع بعض”.
وحول الصراع مع اليهود قال: “منذ العام 1936 بدأوا بعمليات ضد العرب فقد وضعوا لغما في سوق الخضرة بيافا، وانفجرت سيارة ملغومة ومات في هذا الحادث من (40-50) نفرا، وكنت أيامها واعياً وشوفتهم وهم بجيبوا لحم الناس بالأكياس وكنا نحاول واحنا صغار نتفرج عليهم”.
ثم يسرد الحاج مصطفى يعقوب دبابش أحداث الهجرة ويقول: ” كنا نعمل كالعادة في الميناء وإذا بالمورتر بيسقط على البلد القديمة، وبمجرد بدأ القصف أتى أصحاب الرأي وقالوا هيا نخرج من البلد.. مباشرة طلعنا حتى وصلنا إلى غزة وفي الطريق ميلنا على الجورة”.
ويضيف: ” قبل الهجرة مباشرة كانت بينا وبين (بيت فيجان) أو (بيت يام) حالياً مناوشات. كانت جبلية يافا عاملين “استقامات” في الأرض وانطخ احنا واليهود على بعض. وكان أخوي يروح يضرب نار على اليهود من الاستقامات، لكن اليهود كانوا أيامها على عمارة من 12 طابقاً على الأقل ومن فوق العمارة كانوا راكبين كل البلد. وقتلوا منها ناس كثير ومنهم (خميس جربوع) استشهد أمامي من يهود العمارة الذين كانوا يتحركون منها. والعدد الكبير قتل من الناس لأنهم كانوا مأمنين لليهود”.
ويقول أيضا: “اليهود كانوا شاطرين واحنا مساكين كنا نشتري باروده بـ 100 ليرة كنا نبيع كل شيء، لذلك فثمن كل طلقة كان عشر قروش ومن يملك هذا؟ ولم يكن لنا معين إلا الله”.
ويتابع: “في بداية الهجرة كانوا يضربوا نار على الناس في طريق يافا، ورغم ذلك بقيت عائلات في يافا حتى اليوم ولي خال بقي هناك، وفي غزة تعرضنا لضرب الطائرات وكانت القيازين (القنابل الكبيرة) تسقط بيننا ولكنها لم تؤذ أحداً”.
ولما كان بيننا وبين أهل غزة شراكة لأننا أهل بحر استقبلونا بشكل جيد ومنهم الحاج عبد الله أبو حصيرة والحاج سليم حسونة”.
ويعيد الحاج مصطفى سرد بعض مشاهد الهجرة: “كان الجيب اليهودي أمامنا حين خرجنا من يافا طول الطريق وحتى روبين، وكنا نتوقع أن يطخونا في النهاية لكن ربنا سلم. وأمام حالتنا الصعبة كان عند اليهود مصفحات وسلاح متطور لكن عندنا مجموعة مناضلين تحت قيادة عبد الباري، وهو كان قائد الثوار عند الجبلية وخصوصاً في منطقة الاستقامات، ولكن معظمهم كانوا ينضموا على شكل متطوعين دون تنظيم. ويمكن القول إن المقاومة استمرت قبل وبعد الهجرة لمدة عامين خصوصاً المناوشات مع مستوطنة (بيت فجان) والعمارة الكبيرة”.
ويتذكر الحاج مصطفى بعض مشاهد المجزرة (1948) ويقول: “عند ميناء غزة طخوا أيامها أكثر من 24 واحداً وكلهم عساكر فلسطينيين، وشفت الجثث بعيني وكان القتلى من عدة بلدات. ووضع الناس قبل (48) كان صعب والناس كانت تتجمع علينا من الجوع ولا نمنعهم من أخذ السردينه التي لم نبعها من كثرتها”.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]