لفلسطين قصة طويلة في عمق التاريخ، بل لكل مدينة من مدنها تاريخ مستقل حتى اختلطت حكايا الناس والمدن بحكايا فلسطين التي لا تكاد تنتهي في تاريخ البشر والعمران والأديان، وقد زاد من أهمية هذه البقاع قدسية الزمان والمكان بها، وكونها موطن الأنبياء والمقدسات، وأرضا شهدت صراع الحضارات والإمبراطوريات ولا تزال.
في موسوعة "قصة الحضارة" -ذات المجلدات الضخمة- نرى عمق التاريخ في فلسطين، وشواهده التي لا تزال حية منذ العصور الحجرية القديمة، فمن تلك العصور عثرنا على أحجار صوّانية كثيرة من العهدين "الموستيري" و"الأورجناسي"، أما أقدم حديد مشغول مما نعرف في تاريخ البشر كلهم، فهي مجموعة من المُدَى وُجِدَت في "جيرار" بفلسطين حَدَّدَ المؤرخ "بترى" تاريخها بسنة 1350 قبل الميلاد. ثم ظهر الحديد بعد ذلك بقرن كامل في مصر، في عهد الملك رمسيس الثاني، وظهر بعد ذلك بقرن آخر من الزمان في جزر بحر إيجه.
ونظرا لأهمية وإستراتيجية وثراء هذا القطر، تنازعت للاستيلاء عليه أعظم وأقوى الحضارات في تاريخ الإنسانية قبل الميلاد، مثل المصريين الذين استولوا عليها في عصر رمسيس الثاني وسنوسيرت، ثم استولى عليها البابليون فيما بعد، وكذا الفرس والرومان والعرب والصليبيون ودول الإسلام المتعاقبة ثم الإنجليز الذين سلموها لليهود في العصر الحديث. وعلى مدار هذا التاريخ الطويل، سطرت فلسطين ومدنها، لا سيَّما في تاريخ الإسلام، حكايات لا يكاد يعرفها إلا القليل، ولا بد لنا أن نروي بعضا من صفحاتها المشرفة. ومن تلك المدن العريقة يافا، المدينة التي لا تُذكر إلا ببرتقالها الشهير، ومينائها القديم. فما قصة يافا وأخبارها وأسرارها ومحنتها؟
من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال الصليبي
فُتحت الديار الشامية، ودخلت في الإسلام منذ بداية عصر الخليفة الراشد أبي بكر الصديق، ثم اكتمل الفتح في عصر خلفِه الفاروق عمر رضي الله عنهما، وقد كان فتح فلسطين في حدود عام 16 هجرية، بعد طرد البيزنطيين الروم منها إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تاريخها القديم والوسيط والحديث. وقد قُسِّمت بلاد الشام كلها منذ تلك اللحظة إلى مقاطعات، سُميت في المصادر التراثية الإسلامية بـ"الأجناد"، أي "المحافظات العسكرية" التي يُخيِّم فيها الجنود المسلمون. ومن ضمن تلك الأجناد نجد "جند فلسطين"، وأشهر مدنه التي تمدنا بها مصادر التاريخ الإسلامي آنذاك الرملة والقدس وعسقلان وغزة وأرسوف وأريحا وقيسارية وعمَّان ويافا وبيت جبرين.
وفي القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، قُسِّمت فلسطين إلى مقاطعات أو "كُوَر" بصورة منظمة، وأعطى لنا المؤرخ والجغرافي "اليعقوبي" نبذة عن ذلك بقوله: "ولفلسطين من الكُوَر: كورة إيليا وهي بيت المقدس وبها آثار الأنبياء عليهم السلام، وكورة لُدّ ومدينتها قائمة بحالها إلا أنها خراب، وعمواس، ونابلس وهي مدينة قديمة فيها الجبلان المقدسان وتحت المدينة مدينة منقورة في حجر وبها أخلاط من العرب والعجم والسامرة، وسبسطية وهي مضافة إلى نابلس، وقيسارية وهي مدينة على ساحل البحر كانت من أمنع مدن فلسطين وهي آخر ما افتُتح من مدن البلد افتتحها معاوية بن أبي سفيان في خلافة عمر بن الخطاب". وذكر اليعقوبي أيضا أن من جملة مدنها "يافا على ساحل البحر التي إليها ينفر أهل الرملة، ومدينة عسقلان، ومدينة غزة على ساحل البحر وهي رأس الإقليم الثالث وبها قبر هاشم بن عبد مناف (القرشي)".
بقيت يافا مقاطعة من مقاطعات فلسطين طوال عصر الراشدين والأمويين والعباسيين، حتى استولى "أحمد بن طولون"، الوالي التركي القادم بدعم من الخلافة العباسية، على مصر، ثم شرع في الاستيلاء على فلسطين والشام بالكلية لتكوين دولته المستقلة. وفي أثناء استيلائه على فلسطين، قرر بناء قلعة في يافا، يقوم بقلعتها اليوم دير للفرنسيسكان وكنيسة. وفي تلك المرحلة انخرط أهل يافا في الحياة الثقافية والعلمية الحية انخراطا لافتا، واشتُهر منهم "أبو العباس محمد بن عبد الله بن إبراهيم اليافوني"، الذي أخذ العلم عن علماء الحديث والفقه في دمشق والرملة والقدس، وكان أشهر تلاميذه الذين وفدوا عليه في يافا الحافظ المحدّث "سُليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني" صاحب المعجم الشهير، ومنهم "أبو طاهر عبد الواحد بن عبد الجبار اليافوني" أحد علماء الحديث الثقات في ذلك الزمن.
رغم صغر مساحة يافا حتى زمن استيلاء الطولونيين عليها في القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي، فإن بعض الجغرافيين أُعجب بها للغاية، ومنهم المؤرخ الفلسطيني المقدسي "البشاري" الذي زارها في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، قائلا: "ويافه، على البحر صغيرة، إلا أنها خزانة فلسطين وفرَضَة الرملة، عليها حصن منيع بأبواب مُجدَّدة، وباب البحر كله حديد، والجامع مشرف على البحر، نزه وميناؤها جيد". واشتهرت يافا في ذلك الحين بأنها ثغر أو رباط من رباطات المسلمين المواجهة للعدو البيزنطي الروماني، إذ إن ذروة المواجهات الإسلامية معه في البحر المتوسط والأناضول كانت تدور حينذاك. وقد اتخذت مدينة يافا موقعا مهما في ذلك الصراع؛ فكانت مركزا لعمليات مقايضة الأسرى المسلمين وافتكاكهم ولو بالشراء.
نظرا للأهمية الإستراتيجية لهذا الميناء، سارع الفاطميون لاحتلالها بعد استيلائهم على مصر وفلسطين فيما بعد، ثم حرص الصليبيون على الاستيلاء عليها قبل سقوط بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى لأهميتها الشديدة عام 1099م/رجب 492هـ عن طريق الجنويِّين القادمين من إيطاليا. وقد فرح "غودفري دو بويون" ملك مملكة بيت المقدس الصليبية (كامل فلسطين) باستيلاء الفرنجة على يافا؛ لأنها المنفذ الذي وصل إليه ما يحتاجه من عتاد وغذاء وأموال ورجال، ونزل فيه الحجاج الصليبيون الذين أتوا لزيارة بيت المقدس. ولهذا السبب حصَّن "غودفري" يافا، وعزَّز استحكاماتها، وحسَّن مرفأها، وصبغها بالصبغة الفرنجية، وجعل إدارتها لأحد رجاله المقربين.
بسبب أهمية فلسطين ومدنها الساحلية، حاول الفاطميون في مصر بكل سبيل ممكنة إعادتها وفي القلب منها ميناء يافا. ففي سنة 495هـ/1102م: "عاد المسلمون على الإفرنج وتذامروا (اتحدوا) عليهم، وبذلوا النفوس في الكرَّة إليهم؛ فهزموهم إلى يافا، وقتلوا منهم وأسروا وغنموا وكانت العُقبى الحسنة لهم، ولم يُفقد إلا نفر يسير منهم"[7]. وظلت هذه الحملات المصرية تتوالى على فلسطين حتى انكفأ الفاطميون على أنفسهم بسبب سيطرة الوزراء على الدولة منذ عصر "بدر الجمالي" وأبنائه ومن تلاهم بداية من القرن السادس الهجري رغم تكرارها بين الفينة والأخرى.
على أن السلاجقة الأتراك الذين استولوا على بلاد الشام آنذاك كانوا هم أيضا في حالة مقاومة وجهاد مستمر للوجود الصليبي في فلسطين. ففي عام 506هـ/1113م والعام التالي، استطاعت القوات السلجوقية الانتصار على الصليبيين في عدة معارك، وذكر مؤرخ ذلك العصر "ابن القلانسي": "وسرايا الإسلام قد بلغت في النهيض إلى أرض بيت المقدس ويافا، وأخرَبت أعمالهم، ودوختها واستاقت عواملها ومواشيه، وغنِمت ما وجدته فيها"[8]. ومن اللافت أن إستراتيجية القوات الإسلامية المهاجمة، سواء من السلاجقة والأتابكة والزنكيين في بلاد الشام أو الفاطميين في مصر، اعتمدت على المهاجمة السريعة وتكبيد العدو الصليبي أكبر قدر من الخسائر في فلسطين.
يافا بين فرح ومآسٍ
ظلت الجهود الحربية الإسلامية على فلسطين في محاولات مستميتة لاستعادتها، حتى بلغت أوجها في زمن "صلاح الدين الأيوبي" الذي أعاد معظم بلاد فلسطين وفي القلب منها القدس في رجب سنة 583هـ/1187م. وبعد الاستيلاء عليها أرسل أخوه الملك العادل في مصر يبشره بهذا الفتح، ويأمر بالإسراع والتوجه إلى القسم المحتل من فلسطين، فسار العادلُ إلى مدينة يافا، "فحصرها وملكها عنوة ونهبها، وأسَر الرجال، وسبى الحريم، وجرى على أهلها (الصليبيين) ما لم يجرِ على أحدٍ من أهل تلك البلاد".
ورغم انتزاع "ريتشارد قلب الأسد" الملك الإنجليزي ليافا مرة أخرى بعد بضع سنوات، فإن السلطان العادل الأيوبي -أخا صلاح الدين- عزم بكل جهده على استعادتها، حتى نجح بالفعل في تحقيق ذلك سنة 593هـ/1197م بعدما سحق المقاومة الصليبية فيها، وأسر منهم أكثر من 7 آلاف مقاتل. ثم تمكَّن السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس" بعد أكثر من 70 عاما من تطهير فلسطين كليا من الوجود الصليبي، وقرر هدم يافا وجعلها خرابا حتى لا يطمع الصليبيون في الاستيلاء عليها من جديد، وكانت تلك إستراتيجية مُتَّبَعة في حروب القرون الوسطى، وبعد ذلك بعدة قرون أدرك العثمانيون ما لمدينة وميناء يافا من موقع إستراتيجي وجغرافي شديد الأهمية، فأعادوا تحصينها وبناء قلعتها وتحسين مينائها، كما عملوا على منع الغزوات البدوية التي تعرَّضت لها، ومن ثَم راح الناس ينزلون يافا من كل جهة، فازدهرت من جديد، وكثرت ثروتها، وساعدها على ذلك أيضا خصب تربتها، وغزارة مياهها ومزروعاتها من خضروات وليمون وبطيخ ورمان وبرتقال.
ظلت يافا مثل باقي مدن فلسطين تحت الحكم العثماني لأربعة قرون نعمت فيها ببعض الاستقرار والهدوء، كما واجهت بعض الحروب الداخلية بين المماليك والحكام المحليين بين الشام ومصر، وقد زارها أحد الرحالة الفرنسيين الذي يُدعى "إس فولني" ضمن زيارته لمصر والشام بين عامي 1783 و1785م، وذكر أنها أجمل مدينة على ساحل البحر المتوسط، تكثر في جوارها بساتين البرتقال والليمون والنخيل والزيتون.
عقب ذلك، وبعد استيلاء "نابليون بونابرت" على مصر سنة 1798م، قرَّر توسيع سيطرته على فلسطين، واستطاع التوغل في عمقها حتى بلغ مدينة يافا، التي رفضت حاميتها العثمانية تسليم المدينة للفرنسيين، وقتلوا عددا من خيرة قادة الحملة الفرنسية وبعض قواتها، وجن جنون نابليون الذي شدد الحصار وصوَّب المدافع نحو يافا، حتى تمكن من اختراق سورها في نهاية المطاف. وقد ارتكب الفرنسيون مذابح مروعة في المدينة، ولا تزال تلك المذابح معروفة باسم "بقعة الشهداء"، التي تقع "صخرة آدم أمامها"، كما أقيمت هناك مستعمرة يهودية تعرف باسم "بات يام" بعد النكبة.
بسبب هذه المذابح المُروِّعة ومقتل أكثر من 4 آلاف جندي ومدني من أهل يافا وبقائهم عرايا، انتشر مرض الطاعون بين الجنود الفرنسيين، وكان هذا المرض من أسباب فشل حملة نابليون بونابرت على فلسطين، حيث انهارت أحلامه باستعمار الشرق على غرار أجداده في زمن الحروب الصليبية.
هدوء ما قبل العاصفة
عادت يافا إلى الحكم العثماني من جديد، وتعاقب عليها عدد من الولاة، أشهرهم "محمد آغا أبو نبوت" الذي أعاد الاهتمام بعمران المدينة وتحصينها وترميم أبراجها، ونشر الأمن بين ربوعها. وقد أحبه أهلها وعمالها؛ إذ عمل معهم كواحد منهم، وفي عام 1810م أقام جامع يافا الكبير المعروف باسمه، وألحقَ به مكتبة كبيرة، وكانت تُعقد في صحن هذا الجامع حلقات لتدريس العلوم الشرعية والعربية وغيرها، يؤمها أهل يافا بكل شغف، كما أقام سبيلا وسوقا جميلا، ولا يزال أثر هذا السبيل باقيا. وسرعان ما تقلبت يافا تحت الحكم العثماني، ثم الحكم المصري لمدة 10 سنوات أيام محمد علي باشا حين استحوذ على بلاد الشام.
أما برتقال يافا واشتهارها به، فإن أقدم نص تاريخي وصلنا عن برتقال يافا ذلك الذي ذكره الرحالة السويدي "فريدريك هاسل كويست"، الذي زارها في حدود سنة 1751م، ويبدو أن برتقال يافا أقدم من هذا التاريخ، إذ اشتهرت المدينة دوما ببرتقالها الرائع، وفي ذلك يقول المؤرخ الفلسطيني "مصطفى الدباغ": "يُعتبر البرتقال اليافاوي المعروف بالشموطي وأبو سرة المصري من أجود أنواع البرتقال"[14]. وقد بلغت مجموع الأراضي المغروسة بأشجار البرتقال في فلسطين حتى عام 1912م 2100 هكتار أو 5250 فدانا، ثلثها من أملاك اليهود.
حين أطل القرن العشرين بوجهه، وقعت يافا كسائر المدن الفلسطينية أسيرة الهجرة المكثفة لليهود، ثم سرعان ما بلغت أوجها بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، فدخلت يافا في حقبة الانتداب أو الاحتلال البريطاني عصرا مختلفا، عصرا شديد المرارة والقسوة من الترهيب والتقتيل والتهجير لسكانها الذين عاشوا بين جنباتها قرونا متطاولة، حتى خيَّم على البلاد ظلام الاستيطان وتأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]