اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

"الوطنية المتفلتة" بقلم: الشيخ رائد صلاح

إن الذين يريدون للوطنية أن تقوم فقط -كما قال طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"- على (محور الوطنية التي تحصرها الحدود الجغرافية الضيقة لأرض الوطن)، فهذا يعني أنهم يريدون وطنية فلسطينية بلا تاريخ ولا تراث ولا حضارة، تمامًا كما أراد طه حسين للوطنية المصرية، وهذا يعني أنهم يريدون وطنية فلسطينية بلا ضوابط تربطها مع قيم العروبة والإسلام، أي بمعنى آخر يريدون وطنية "متفلتة" من أي ضابط فلسطيني أو عروبي أو إسلامي، إلا من رابط الأرض. وهذا يعني أنه -وفق حساباتهم- يكفي لوجودهم (ميلادًا وحياةً) في أرض تحمل صفة "الفلسطينية" أن يصبحوا من حملة الوطنية الفلسطينية، حتى لو خالفوا هوية هذه الوطنية في بُعدها التاريخي والتراثي والحضاري والعروبي والإسلامي. وهذا ما دفع طه حسين أن يُركز جهوده الفكرية في ناحية إعلاء شأن ((المصرية)) و((الفرعونية)) كنتيجة طبيعية لذاك الفهم الذي وضعه للوطنية المصرية، وذلك قبل أن يضطر إلى الانحناء أمام اتجاه العروبة والإسلام المتصاعد في مصر بدءًا من أواخر الثلاثينيات. 
 
ويبدو أن البعض من بني جلدتنا الذين يريدون للوطنية الفلسطينية أن تتبع نهج طه حسين في وطنيته المصرية قد وصلوا إلى نتيجة مفادها أنه يسعهم أن يجمعوا بين الوطنية الفلسطينية والدفاع عن مبدأ "مثليّي الجنس" كأسلوب حياة للعلاقات الاجتماعية؛ سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، بعيدًا عن أي انضباط بهوية الوطنية الفلسطينية في بعدها التاريخي والتراثي والحضاري والعروبي والإسلامي، وهذا يعني التمسك بالقيمة "الترابية" فقط للوطنية الفلسطينية والتخلي عما سوى ذلك!! ولا أظن أن أي راشد أو راشدة من دعاة الوطنية الفلسطينية يوافق على ذلك، بل إن كل راشد أو راشدة من دعاة الوطنية الفلسطينية مطالبون بأن يقفوا في وجه هذا التعريف للوطنية الفلسطينية وأن يتصدوا له، لأنه تعريف يحمل في طياته تدمير الوطنية الفلسطينية مظهرًا وجوهرًا بادعاء الانتماء إليها، وإلا أية وطنية فلسطينية هذه إذا كانت مجرد التمسك بالقيمة "الترابية"؟! هل نرضى وطنية فلسطينية تتخلى عن اللغة العربية؟! إذا كان جواب البعض "نعم" فأنا بريء من هذه الوطنية، وإذا كان الجميع يرفض أن يتخلى عن اللغة العربية، فكيف للبعض أن يرفض التخلي عن اللغة العربية وفي نفس الوقت يدعو للتخلي عن التراث الفلسطيني، حيث أنه يوم أن يدعو للدفاع عن مبدأ "مثليي الجنس" كنهج حياة فإنه يدعو لنبذ "التراث الفلسطيني". وأنا شخصيًا لا أتردد أن أقول إن وطنية فلسطينية تتخلى عن التراث الفلسطيني أنا بريء منها. وهل نرضى وطنية فلسطينية تتخلى عن التاريخ الفلسطيني؟! إذا كان جواب البعض "نعم" فأنا بريء من هذه الوطنية. وإذا كان الجميع يرفض أن يتخلى عن التاريخ الفلسطيني، فهل قام التاريخ الفلسطيني وهل قامت تضحياته دفاعًا عن "الفطرة السليمة" أو دفاعًا عن "الشذوذ الجنسي"؟! أم أن البعض -وهم دعاة "مثليي الجنس"- يريدون أن يُحَمِّلوا التاريخ الفلسطيني ما هو بريء منه حتى قيام الساعة؟! وهل نرضى وطنية فلسطينية تتخلى عن أواصر العروبة والتواصل الدائم والأبدي مع العالم العربي؟! إذا كان جواب البعض "نعم" فأنا بريء من هذه الوطنية. وإذا كان الجميع يرفض أن يتخلى عن العروبة وقيمها، فهل دعت العروبة ذات يوم إلى مبدأ "مثليي الجنس" كنهج حياة؟! أم أن قيم العروبة هي التي لا تزال تصرخ بملء فمها: تموت الحرة ولا تأكل بثديها؟!! ولذلك أقول بلا تردد: إذا دعانا البعض إلى أن نختار بين وطنية فلسطينية بلا قيم عروبية وبين العروبة وقيمها، فسنعيد تصحيح المفهوم الذي مسخوا به معنى الوطنية الفلسطينية، وسنجعلها على تواصل دائم مع العروبة وقيمها. وهل نرضى وطنية فلسطينية تتخلى عن أواصر التواصل مع القيم الإسلامية والأمة المسلمة؟! إذا كان جواب البعض "نعم" فأنا بريء من هذه الوطنية. وإذا كان الجميع يرفض أن يتخلى عن القيم الإسلامية، فهل دعت هذه القيم إلى مبدأ "مثليي الجنس"؟! أم أن قيم الإسلام تقول لنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم عمل قوم لوط"، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط".
 
بناءً على ما تقدم أقول بلا تردد: ليس من حقي أن أوزع شهادات التكفير، ولا شهادات التخوين، ولا شهادات نزع الوطنية عن الآخرين، ولكن من حقي أن أعلن بقناعة ويقين للقاصي والداني أنني بريء من كل وطنية "متفلتة" تتخلى عن التاريخ الفلسطيني والتراث الفلسطيني وعن اللغة العربية وعن القيم الإسلامية والعروبية وعن الحضارة الإسلامية والعربية، وإن وطنية "متفلتة" تتخلى عن كل ذلك هي أخطر على الوطنية الفلسطينية من المشروع الصهيوني؛ عدوِّها التقليدي، وهي وطنية تمكّن للمشروع الصهيوني في وطننا أقوى مما يمكّن هو لنفسه. ثم من حقي أن أعلن بلا تلعثم أنني كما أعلن في وجه المشروع الصهيوني أنني أرفض مصادرة أرضنا أو هدم بيوتنا أو تدنيس مقدساتنا، فإنني أعلن في وجه هذه الوطنية "المتفلتة" أنني أرفض مصادرة تاريخنا وتراثنا أو هدم حضارتنا ولغتنا أو تدنيس قيمنا الإسلامية والعروبية. ثم من حقي أن أعلن بكل افتخار أن انتماء هويتي وامتدادها لا أقصد به الوطنية الفلسطينية وحدها؛ بل أعني العروبة وبلاد العالم العربي، والأمة المسلمة والدول الإسلامية، حيث أن كل شبر من هذه الآماد هو جزء من انتماء هويتي، وسيبقى أبناء الحركة الإسلامية أشد الناس تطرفًا في الوطنية في حب الخير لشعبنا الفلسطيني وعالمنا العربي وأمتنا المسلمة والدعوة إلى تخليصها من كل ظالم ومحتل ومستعمر، والسير بها في مدارج العلم والإيمان والرقي الحضاري، والعمل على هداية البشر بنور الإسلام ورفع علَمه خفاقًا على كل ربوع الأرض.
 
ولن يضيرنا أن يقول لنا البعض -قل عددهم أو ندر- من دعاة الوطنية "المتفلتة": (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). 

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

تعليقات Facebook