اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

اصدار جديد لتمام الاكحل "نحن في عرض البحر ... يافا غابت"

 
من كلمة رثاء الشاعر الراحل محمود درويش في رحيل الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط، انتقت زوجة شموط الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل جملة قالها درويش «اليدُ ترى والقلب يرسم» عنواناً لكتابها الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية «اليدُ ترى والقلب يرسم» - سيرة ومسيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط - تحرير غانم بيبي، وتقديم الياس خوري» ويضم لوحات بريشة هذين الرائدين في مسار الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية.
 
تدفقت ذكريات الأكحل بين سطور الصفحات، واستفاضت في شرح بعضها، واقتضبت بصيغة البرقيات في بعضها الآخر. وإن كانت حكاية فلسطين ونكبة شعبها، واحتلال أرضها، ومأساة شتات هذا الشعب الذي تفرّد ذات يوم بطرقه اليومي على وجدان العالم، قد شكلت حميمية حكاية السيرة والمسيرة، فهي وفي آن واحد، دفعت إلى أقصى البوح بيوميات حياة هذين اللاجئين، من دون تجميل أو تعتيم على معاناة تفوقت الأكحل على نفسها في سرد وقائعها، من احتياجات المأكل والمشرب واللباس، وقد عانا من فقدانها، فأتتهم تبرعاً أو شفقة.
 
من شباك غرفتها المطل على بحر يافا تبدأ الأكحل بـ «تفوير» غليان الذاكرة مع موسم قطف البرتقال اليافوي «بلونها الذهبي المشع كلون الشمس» (ص11)، وبداية موسم تفجُّر موهبة تمام «لأتسلل وآخذ الورق الرقيق الشفاف فأخبئه في ثيابي وأعود به إلى سطح منزلنا، وكنت أحمل قليلاً من الطحين والماء وقطعاً من القصب» (ص11)، فكانت «أعمالي الفنية تلفت نظر مُدرسَتّي الرسم»، إلى شباط (فبراير) 1947 عندما «أفقت باكراً... وجدت والدي مطأطأ الرأس، وأمي تضرب كفاً بكف»... ذهلت وسألت أمي، فقالت: اليهود بدأوا الحرب علينا وبدهم ياخدوا بلادنا ويسمُّوها اسرائيل، وإحنا رح نحاربهم، بس ما فيش أسلحة، الإنكليز أعطوهم الأسلحة ودربوهم عليها، وبدهم يعطوهم البلاد كمان» (ص16).
 
ومثلما رسمت تمام بقلم الرصاص عائلتها يوم وقوع مجزرة دير ياسين، نقلت «الكاسرة» (لقبها) من ذاكرتها طفولتها الشقية، ومناخ الأعياد الإسلامية - المسيحية وجماليات علاقاتها وزينتها، والمجندة اليهودية التي قتلت ابن خالتها، ويوم (28 نيسان- أبريل 1948) وهو «يوم لا يُمكن أن يُنسى، صحونا فجراً على أصوات ضرب مخيف بأعقاب البنادق على الباب الخارجي الذي فتحته على مصراعيه مجموعة كبيرة من الجنود الصهاينة وهم يرددون كلمة: برّة.. برّة» (ص26). فكانت الوجهة بيروت على متن الباخرة «دولارس»، وقد رسمت تمام هذا المشهد في جدارية «الاقتلاع من يافا» في ما بعد... أما بعد فـ «نحن في عرض البحر. يافا غابت» (ص28).
 
تصف بيروت فتقول «كانت ملأى بالمقاهي، وفي الطرقات مكبرات الصوت تصدح بأغنية سهام رفقي يا فلسطين جيناك..!، وأغنية للشاعر الشعبي عمر الزعني ضد الفساد السياسي، وتروي عذابات التفتيش عن العمل وكانت بسنواتها الثلاث عشرة، وعن العوز بالمعنى الحرفي، وعن «انقلاب الزمن»، وعن مخيم صبرا «ويا لهول ما رأيت» في مشهد توزيع الحليب، فعدت الى البيت «وقصصت خصلة من شعري ثبّتها على قلم الرصاص بخيط، ورسمت بهذه «الفرشاة» صورتين على ورقتين، إحداهما عن الحليب، والأخرى عن الماء، فكانتا أولى أعمالي عن مأساة فلسطين» (ص38).
 
لم تشكل تلك النكبة، وتانك الصدمة - الفجيعة في نفس الطفلة سوى مزيد من التصميم على اقتحام الحياة، ودخول ميدان العمل الشاق لطفلة تبغي إعالة الأهل، فكان الطريق الى العمل طريقاً في «اقتحام» بوابة مدرسة كلية البنات - المقاصد - الباشورة بطريقة يخلو من ترتيبها أي مخرج سينمائي مقتدر. في العام 1953 «شاركت في معرض الخريف السنوي بثلاثة أعمال في قصر الأونيسكو وكانت تلك التي رسمتها بخصلة شعري والثالثة عن «حياة المهجرين الأكراد خلف مدرستي» (!). وقد تنبّأ لي أحد أعضاء لجنة التحكيم الألماني الجنسية إستيفان لوكاس بمستقبل باهر» (ص55)، إلى ان كانت جائزة العمر الكبرى بإيعاز رائد الفن التشكيلي اللبناني مصطفى فروخ لإدارة المقاصد تأمين مساعدتي على التخصص بهذا الفن «وإلا خطيئتها برقبتكم» (59)... فكانت القاهرة، وكان اللقاء الأول بإسماعيل شموط، وكان المسار المشترك والمسير. وحكاية أول خيمة نصبها شموط في خان يونس بعد تهجيرهم من بلدته اللد، فكانت نواة المخيم ولا يزال... وعن معاناته، والجوع، والملابس المستعملة، والتلوين بالبصل الأحمر، ولوحته «العطش على طريق التيه» من ذاكرته وفيها جسّد موت شقيقه الطفل عطشاً، وتعليم الرسم مقابل سمكة ثم كيس بصل أحمر، فالعزف على الأكورديون، فمرض الروماتيزم الذي أصاب القلب، فرسم على التقارير الطبية، ولوحاته «التي تنم عن قدرة فنية وإبداعية في التعبير عن الموضوع الفلسطيني».
 
سلسة ذكريات تمام الأكحل كما روتها، ومليئة بأحداث ومفارقات تداخل فيها الصعب والأصعب، الناجح والأنجح، التحدي والأكثر تحدياً، عاشتها وشموط حتى ثمالة اقتراب رحيله. ترصدها كما رسمتها، أو تبدو كأنها رسمتها بإرادة حديدية، فأبدعتها رسماً وموضوعات عن فلسطين. وكان أول معرض رسمي افتتحه جمال عبد الناصر عام 1954، وانتقى منه لوحتَي شموط بعنوان «إلى أين»، و «سنعود» وطلب إرسالهما الى مكتب جامعة الدول العربية في واشنطن، ولكن شاءت الظروف وبعد مرور 10 سنوات ان اللوحتين لم تجدا طريقهما الى التعليق على الحائط لأن مسؤول المكتب لا يحب المشاهد المأسوية!..
 
وهو الحدث المشابه لاختفاء لوحاتها في مهرجان موسكو عام 57 عن القضية الفلسطينية: «وكان المسؤول عن هذا النشاط هو المشارك الفظ»، في إشارة منها الى أحد المسؤولين في الوفد الفلسطيني (ص122)...
 
تنقلت تمام وشموط في مدن كثيرة للعيش والعمل، وتوازت في حياتهما تلك فرص النجاح والعوائق، سواء عربية كانت أم أجنبية، وأقاما عشرات المعارض، ونالا جوائز، وتركا بيروت بعد اجتياحها، إلى أن استطاعا زيارة مدينتيهما يافا واللد عام 1997، وأنجزا بعد تلك الزيارة 19 جدارية تختصر معاناة الترحيل والترحال وأحلامنا بالعودة وحقنا في الحياة الإنسانية، بعد أن أغلقت شوشانا فلكنشتاين باب بيت الأكحل والذي احتلته بوجه تمام وابنها».

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

تعليقات Facebook