بقلم الشيخ كمال خطيب
يحدث الأخ محمد عبد الحميد أحمد في كتابه “ذكرياتي” وهو مصري من تلاميذ الأستاذ حسن البنا رحمه الله فيقول: إنه كان حريصًا على زيارة من يتغيب من إخوانه عن حضور الاجتماعات واللقاءات الإيمانية، فكان يذهب إلى بيته يسأل عنه إذ لعله تأخر أو تغيب لمرض أو أي عذر آخر، يقول : وذات يوم ذهبت لزيارة أحد الإخوة ممن تغيبوا عن حضور اجتماع للعاملين للإسلام وطرقت الباب فرد علي وفتح الباب أخوه وكان عمره لا يتجاوز السابعة، وكان هذا الطفل كثيرًا ما يلازم أخاه ويحضر معه في المناسبات والمهرجانات والاحتفالات التي تقيمها الجماعة، حيث كان يراني هناك ولكنه لم يعرف اسمي فتبسم الطفل ثم عاد مهرولًا إلى داخل البيت فسأله أخوه وكان مريضًا، من القادم ؟.
فقال الطفل: القادم هو الأستاذ “الله أكبر ولله الحمد” يقصد بهذا التعريف الجميل أن القادم هو أحد الإخوة الذين يحضرون معك في الاجتماعات والمناسبات التي تكثرون فيها من ترديد شعار وهتاف “الله أكبر ولله الحمد”.
إن مثل هذه الحادثة لتعبر فعلًا عن معنى حديث رسول الله ﷺ: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه”. أي أن ديانة وانتماء الوالد هو المقدمة والأساس لانتماء الطفل سواء كان الأبوان يهودًا أو مجوسًا او نصارى أو مسلمين.
ولكن لمّا كان مجرد الولادة على الإسلام لا يكفي ليكون المرء مسلمًا متمثلًا في نفسه وذاته وفكره وحمله أحكام شرع الله تعالى، إذ لا بد من ممارسة الإسلام عملًا وسلوكًا كما أمر الله تعالى في كتابه وكما حث رسول الله ﷺ في سنته.
وعليه فإنه من واجب الآباء أن يلقنوا الأطفال تعاليم الإسلام وأن يغرسوا فيهم فضائله وأن ينشئوهم على الاعتزاز بدينهم، فلو لم يفعل الآباء ذلك فإن الأطفال لن يبقوا آنية فارغة، ولكنهم سيُملأون بما هو ضار وغريب ودخيل بل بما يحرفهم عن الجادة، ويباعدهم عن دين الله تبارك وتعالى.
لئن كانت تلك الجملة التي رددها ذلك الطفل إنما تعبر عن رسوخ ذلك الشعار في ذهنه وذاكرته وقفزت على لسانه في أول فرصة للتعبير أتيحت له، فإن هذا يعني ضرورة أن نسعى مع أبنائنا لكي نشغلهم بخير إيماني واسع يكون هو الأساس لبناء شخصيتهم المستقبلية بإذن الله تعالى.
وعلى العكس من هذه الصورة التي عرضها الكاتب لذلك الطفل المصري يعرف لسانه بعضًا ممّا في قلبه، فإنه يعرض صورة أخرى معاكسة لأطفال عراقيين لمّا ذهب مع مجموعة من المدرسين المصريين للتعليم في العراق وقد انتدبتهم الحكومة المصرية لذلك في سنوات الأربعين من القرن الماضي، يقول: ولمّا دخلت غرفة التدريس وكنت ألبس الطربوش الذي يعتبر هوية تدل وتعرف أن لابس الطربوش هو مصري.
يقول: وما أن دخلت الصف وإذ بالتلاميذ العراقيين يبادرونني بالسؤال قائلين: “إشلون أسمهان؟” أي كيف حال المغنية التي اسمها أسمهان. هذا يعني أن أولئك الأطفال يومها قد استحوذ على تفكيرهم وملك مشاعرهم تعلقهم بأسمهان أكثر من أي شيء آخر، حتى أصبح القدوات والنماذج والكبراء في أعين أبناء الجيل هم المطربون وهن الممثلات والرقاصات، وما أصدق ما قاله الشاعر:
سيقال لو أن المؤرخ منصف هذه الشعوب لمحمد لا تنتمي
رضيت من الإسلام ظاهر لفظه ومن العروبة لهجة المتكلم
وهي التي جنحت لأجنحة الكرى والدهر لم يفتأ عدوّ النّوم
كنا سنام الكون كنا هامة واليوم صرنا منه دون المنسم
صرنا عبيد المال باسم حضارة حمقاء لم تؤمن بغير الدرهم
صرنا عبيد الغيد أقصى همنا لو تحت أقدام الغواني نرتمي
حتى جعلنا الغانيات كواكًبا ومباذل الأخلاق رمز تقدم
وإذا استذلت أمة شهواتها جمدت فلم تنهض ولم تتقدم
هذي ليالينا وتلك حياتنا أوهام عرس في حقيقة مأتم
إن علينا أن نعلم أن الذي لا يشغل نفسه بالحق فإنها ستشغله بالباطل، وأن الذي لا يركب سفينة الخير فإنه سيُحمل على سفينة الشر، وأن ما ينطبق على الصغار فإنه ينطبق على الكبار وعليه فإن الأمة الجادة هي التي يسعى الآباء والأمهات فيها إلى معرفة وظيفتهم معرفة تامة ثم قيامهم بواجبهم أحسن قيام، وإن أهم الواجبات السعي إلى الارتقاء بمفاهيم الأبناء بما يضمن معايشتهم لقضايا الأمة حتى يكبر فيهم الأمل وينتصر على الألم الذي يكاد يطغى على حياتهم، ويلفنا وإياهم من كل جانب.
لقد اتسعت الفجوة كثيرًا بين الحال الذي كان عليه محمد رشيد رضا رحمه الله والذي كانت أمه إذا رأته عابسًا تمازحه قائلة: “هل قتل مسلم في الصين يا بني؟” تقصد أن ابنها الشاب كان ينشغل بهموم المسلمين أينما كانوا ويتأثر بحالهم، ويظهر ذلك على نفسيته ومعالم وجهه حتى لو كان ذلك المسلم يسكن في أرض بعيدة.
بينما ومع طفرة الفكر القومي منتصف القرن الماضي والتي كانت من أخطر مظاهرها تعزيز الروابط القومية العروبية على روابط الأخوة الإسلامية بحيث أريد للعربي أن لا يهتم بمصير ولا يتألم بألم أخيه المسلم الهندي أو الأفغاني أو البوسني، بينما هو يقدس العلاقة مع العربي حتى لو كانت قائمة على الكفر كما كان يردد الشاعر العروبي:
سلام على كفر يوحّد بيننا وأهلًا وسهلًا بعده بجهنم
لقد وصل الحال في واقعنا الذي نعيشه إلى محاولة الوصول إلى عبثية الانشغال بهموم المسلمين والمجازر التي ترتكب بحقهم وإن كان هؤلاء عربًا وجيرانًا فسمعنا وما نزال عمّن يعيب علينا الانشغال بإخواننا في مصر أو في سوريا أو العراق، واليوم حيث يراد اخضاع المشاعر الإسلامية والإنسانية لبورصة الولاءات السياسية. لا بل أصبح مشاهدة مجزرة تقع في مصر أو في بلاد الشام أو غيرها لا تحتاج لأكثر من نقرة على جهاز التحكم بالتلفزيون لينتقل بك إلى مشاهدة مسلسل أو مباراة كرة قدم، وأصبح لا يحتاج قراءة خبر مقتل شخص أو ارتكاب جريمة لأكثر من تشحيطة أو لمسة خفيفة على جهاز الهاتف لينقلك إلى عالم آخر بعيدًا عما يمكن أن يفسد عليك زهوة ذلك الصباح.
وعليه فلا فكاك عن استمرار النقش في الذاكرة والحفر على جدران القلب وقرع الأذان بمصطلحات الخير والفضيلة حتى تترسخ وتتجذر وحتى لو اعتراها مع الأيام غبار السنين وطغت عليها بعض المصطلحات لكن مسحة لطيفة على ذلك الجدار وتلك الفطرة فإنه سيعيدها إلى صفائها وأصالتها.
وإن مما يعزز هذه القناعة تلك المقارنة بين بيتين لعائلتين، وفي كلا البيتين تتم تربية ببغاء في قفص.
ويحدث أحد الأخوة الأفاضل من البحرين التقيته في إسطنبول قبل سنوات يقول: دخلت على بيت كانت فيه ببغاء، ولما حان وقت الأذان وقمنا لنذهب إلى المسجد وإذا بالببغاء تصدر صوتًا يقول “قوم صلّي قوم صلّي” فلّما سأل عن ذلك وكان الصوت واضحًا قيل له لأن هذه الببغاء طالما سمعت الأم الفاضلة في البيت إذا سمعت صوت الأذان تقول لابنها “قوم صلّي قوم صلّي” ولكثرة ما سمعت الببغاء تلك العبارة فقد أصبحت ترددها.
يقول ذلك الأخ: ولقد حدّثني زميل أنه دخل أحد البيوت، وإذا بالببغاء تقول له “يا جزمة” باللهجة المصرية، فأحرج أصحاب البيت وقد عرف أن هذه الببغاء طالما سمعت أفراد البيت يشتمون بعضهم البعض بهذه العبارة فحفظتها حتى أنها أصبحت تقولها على مسمع من الضيوف.
فإذا كان كثرة ما سمعته الببغاء قد نقش في ذاكرتها وعلى لسانها هذه العبارات، فلماذا لا ننقش في قلوب ووجدان وذاكرة أطفالنا كل معاني الخير والفضيلة، ويقينًا أن الببغاء لن تكون أذكى ولا أوعى من أطفالنا.
إن السعي لأسلمة المجتمع يعني العمل الجاد لترسيخ الفكرة الإسلامية قولًا وعملًا في حياة المسلمين في هذا المجتمع، وإن من مظاهرها اتساع قاموس الكلمات والألفاظ والشعارات والمفاهيم التي تربط هؤلاء الناس بالإسلام.
ولمّا كانت قضية القدس والمسجد الأقصى هي قضية المسلمين الأولى، فإن من الواجب فعلًا على كل منّا السعي لجعل ذاكرة الأجيال زاخرة بالألفاظ والمصطلحات التي ترسخ فيهم أن القدس مدينة عربية إسلامية منذ آلاف السنين وقبل اليهودية، وقبل كل من يزعمون أحقيتهم في القدس الشريف.
ولقد أحسنت الدعوة الإسلامية صنعًا والحمد لله حينما جعلت من القدس والمسجد الأقصى الشغل الشاغل حتى ترسخت في أذهان وذاكرة الأطفال والرجال والنساء مصطلحات لا تنسى ولا تغيب في العلاقة بين الأمة وبين المسجد الأقصى المبارك.
إنه لا يُنسى من ذاكرتنا نحن الكبار يوم كنا نرى الآلاف من أطفالنا في الداخل الفلسطيني مثل الفراشات ومثل العصافير في ساحات المسجد الأقصى وكلّ يحمل بيديه دفتر الرسم وعلبة الألوان، وقد أخذ كل منهم زاوية أو افترش بلاطة من بلاط ساحات الأقصى وأخذ يرسم مئذنة أو قبة أو محرابًا أو غير ذلك من مرافق المسجد الأقصى المبارك فيما عرف يومها بـ “مهرجان طفل الأقصى” والذي كان يختم بتقديم الجوائز على تلك الإبداعات من الرسم والنشيد والمسرح التي يقدمها الأطفال.
يقينًا أن في ذاكرة هؤلاء الأطفال قد نقشت بل وفي قلوبهم قد حفرت كل معاني الارتباط بالمسجد الأقصى المبارك، وأنه كان وسيظل بالنسبة لهم هو المسجد الأقصى وليس جبل الهيكل، وأنه حائط البراق وليس حائط المبكى كما يحاول قادة النهج الجديد أن ينقشوا في ذاكرة ووجدان أبناء شعبنا، وحتمًا لن ينجحوا في ذلك بإذن الله تعالى.
وعليه فإذا سمع أطفالنا منا المصطلحات الحقيقية عن المسجد الأقصى المبارك وكانوا في صحبتنا هناك فإنها حتمًا ستنقش في ذاكرتهم ووجدانهم وقلوبهم. ولن يكون عند ذلك تأثير لمصطلحات زمن التجديد الخطير على أطفالنا وأقصانا وأمتنا، ولسان حال أطفالنا يقول كل واحد منا لوالده إذا رأى فيه اعوجاجًا كما قال فراخ الطاووس لأبيهم
مشى الطاووس يومًا باختيال فقلّد شكل مشيته بنوه
فقال: علام تختالون؟ قالوا بدأت به ونحن مقلّدوه
أما تدري أبانا كل فرخ يحاكي في الخطى من أدّبوه
فقوّم خطّك المعوّج وأعدل فإنا إن عدلت معدّلوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه
﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]