بقلم الشيخ كمال خطيب
إن من أهم أسباب شفاء المريض أي مريض من علّته وسقمه هو إقراره واعترافه بأنه مريض، لأن هذا الاعتراف يجعله يتجاوب وينفّذ تعليمات الطبيب ويلتزم بتناول الأدوية والعقاقير التي قررها له، وإلا فإن مكابرة المريض ورفضه الإقرار بالمرض ورفضه تناول الأدوية والعقاقير فإنه لن يشفى حتى وإن كانت هذه الأدوية من أجود وأحدث وأشهر المختبرات والشركات الرائدة.
ومثل الأفراد فإنها الأمم والشعوب المجروحة المكلومة فلن يغيّر من حالها ولن يشفي جراحها ويداوي أسقامها ويخرجها مما هي فيه من الذلّ والهوان والضعف إلا أن تقرّ وتعترف بأزمتها والواقع الجديد الذي باتت عليه بما يختلف اختلافًا جذريًا عما كانت هي عليه، فإذا اعترفت بأزمتها وشخّصت علّتها فحتمًا ستسعى للعلاج المناسب الناجح.
مع الأسف إن أمتنا في العقود الأخيرة فإنه يراد لها من قبل أعدائها ومن قبل أبنائها الذين ارتموا في أحضان الأعداء وقد تسلّموا زمام أمورها أن تقتنع وترضى بما هي عليه، وأن استمرار انسلاخها عن بعضها هو خير لها، وأن شفاءها ودواءها لا يصلح ولن يكون إلا إذا أخذت بكل وارد ووافد من قبل أعدائها بعد إذ أصبحت حقلًا لتجاربه في كل نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية.
تقول الأخت الفاضلة الدكتورة إيمان السباعي في كتابها الرائع -الراقصون على جراحنا- :” إن الأمم تداوي جراحها بينما نحن نتمسك بالمدى لتوسع الجرح ونجعله ينزف وينزف حتى يغرقنا بدماء العار. إن الذين يدركون أهدافهم يعملون باستمرار، بينما نحن نائمون.
إن الجراح قد تكاثفت على جسد أمتنا وتنوعت وتعددت ومنها ما تعفن واستعصى شفاؤه، منها الجراح الاجتماعية ومنها السياسية ومنها الاقتصادية ومنها الأخلاقية ومنها الفكرية والأدبية… وإن الجراح قد اثخنتنا حتى صارت أجسادنا مغطاة بوشاح سميك منها، فحتى متى؟… ورغم هذا وذاك نجد شبابنا صورًا منسوخة عن أحد المائعين المنفلتين الواردين إلينا عبر الأثير، لا يعرفون إلا الرقص والغناء والأجنبي منه بشكل خاص، ولا يجيدون إلا لغة الحب والغرام، وكلهم يحملون سلاحًا واحدًا مؤلفًا من مشط ومرآة…..”.
إن هؤلاء المنفلتين المائعين المخنثين لم يعودوا يتواصلوا مع أبنائنا عبر الأثير والشاشات، بل إنهم الذين أصبحوا يستقبلون استقبال الفاتحين في المطارات وفي الساحات العامة، هناك في جدة قريبًا من مكة المكرمة وبيت الله الحرام، وهناك في العُلا قريبًا من مدينة رسول الله ﷺ ومسجده وقبره الشريف. إنهم يأتون مطربين ومغنين ورقّاصين ومصارعين وعارضات أزياء ورقّاصات تغدق عليهم الملايين ليصبحوا للشباب والشابات هم من النماذج والنجوم والقدوات استمرارًا لنزيف الجرح بدل القدوات العظام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد والمثنى، بل وبدلًا لسيد القدوات وسيد السادات سيدنا محمد ﷺ، إذ وقبل أيام فقط تم إرسال طائرة خاصة لنقل الممثل الأمريكي “فيتالي زدروفتسكي” للمشاركة في فعاليات موسم الترفيه في الرياض وهو ممثل مشهور يشارك في أفلام إباحية خليعة، وقد شوهد وهو يتجول في شوارع الرياض يلتقط الصور مع الشباب السعودي.
وما أصدق ما قاله الشاعر في بيان أن لا شفاء ولا دواء لأمتنا مما هي فيه إلا بالعودة إلى الدواء والبلسم الذي سبق وأخذت منه جرعة، وإذا بها يتغيّر حالها فهداها من ضلالة، وعلّمها من جهالة، ورفعها من انحطاط، وأعزّها بعد ذل، وتقدمت القافلة الإنسانية وقد كانت في ذيلها، وأصبحت راعية الأمم والبشر بعد أن كانت ترعى الشاة والبقر.
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنّوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيّدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدلٌ من الله تأييدًا لسنته حظ المقصّر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العرب قرآن
ولكي لا يستمر ولا يطول الهوان الذي تعيشه أمتنا فلابد من الإقرار والاعتراف أن سبب هذا الهوان وهذه المحن هو في بُعدها عن الدين، وأن عزّها وشفاءها وخلاصها بالرجوع إلى دينها كما قال رسول الله ﷺ: “تركت فيكم لن تضلّوا ما إن تمسكتم به، كتاب الله وسنتي”. وقال ﷺ: “إذا تبايعتم بالعينة -الربا-، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع -الانشغال بالدنيا- وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”. وإلى مثل ما قاله ﷺ فقد أشار ودلّل سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال: “إنا كنّا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله”. وما أجمل وأصدق ما قاله الشاعر:
شريعة الله للإصلاح عنوان وكل شيء سوى الإسلام خسران
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا عزّ ولا شان
هذه الشريعة “الكتاب والسنة” هي الشفاء والبلسم وهي النور، فليس أن بتركها يكون الذلّ والهوان والضياع بل إن الله سائلنا عن ذلك، وإن رسوله ﷺ معاتبنا عن ذلك يوم القيامة:
ماذا نقول يا ربي حين يسألنا عن الشريعة لم نحي معانيها
ومن يجيب إذا قال الحبيب لنا أذهبتموا سنتي والله محييها
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه -حصاد الغرور-: “والذين يرجعون هزيمة العرب أمام الاسرائيليين إلى عبقرية الاسرائيليين، إنما يريدون مواراة قصة استغفال محزنة، إنهم يريدون أن نذهل عن عيبنا كي تتكرر المأساة نفسها، فهل نعمى عن علّتنا المهلكة ثم ننسب النتائج إلى الوهم ونزعم أن اليهود غلبونا لعبقريتهم الحربية وتفوقهم في كذا أو كذا يقول التاريخ.
إن شبيهًا لهذه المأساة وقع من تسعة قرون، فقد انهزم العرب يوم الحملة الأولى للصليبيين دون سبب معقول! كان الصليبيون قد هبطوا من أوروبا إلى الشرق الأوسط وهم يجرّون أقدامهم جرًا، وبلغت بهم المجاعة إلى حد أن أكلوا الجيّف ولم تكن ظروفهم تمكّنهم من كسب أي معركة، ومع ذلك فقد هزموا العرب الموفوري القوة والعدة والصحة والشبع، وذبحوا سبعين ألفًا منهم في القدس، لماذا؟ لأن العرب كانوا في حال من الفرقة والبطر والفسوق والغفلة تحرمهم من رعاية الله وتبعد عنهم النصر القريب”.
وقال في كتابه -علل وأدوية- بعد أحداث مجزرة صبرًا وشاتيلا: “إذا لم يعتنق العرب الإسلام وينتموا إليه ظاهرًا وباطنًا فلينتظروا خسفًا ومسحًا ومذابح أخرى”. وما أصدق ما قاله الشاعر:
إن يُسلخ العرب من إسلامهم رجعوا على شمال المعالي بعض أصفار
ليس للنصر إلا طريق واحد
قال رسول الله ﷺ: “ما فيكم من أحد إلا سيكلّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن فلا يرى إلا ما قدّم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة”.
وإن أعظم ما يمكن أن يقدمه المسلم من عمل به يتقي النار يوم القيامة فإنه العمل للإسلام ونصرة الدين وأن يرفع للحق راية، وأن ينحاز إلى موكب الأحرار والصادقين العاملين للدين لسان حاله يردّد:
أبدًا أظلّ مع التقاة مع الدعاة العاملين الرافعين لواء أحمد عاليًا في العالمين
إن العاطفة والحماسة للدين ونصرته يجب أن تلازم كل واحد منا لأن بها وبالتقاء جهود كل الخيّرين سيكون التغيير وهو طريق النصر، وبذلك لن يطول الهوان الذي تعيشه أمتنا {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} آية 53 سورة الأنفال.
يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: “إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نارٌ مُتَّقدة تكون في ضرامها على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد أبنًا له مريضًا ولا يدعه حتى يجرّه إلى الطبيب أو عندما لا يجد في بيته شيئًا يسد رمق أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم وتعمّر قلوبكم بالطمأنينة وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرّد، وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث أن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين…”.
ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “قد تستطيع العرب استيراد السلاح من جهة أو أخرى كي يستردوا حقهم الضائع ويداووا جراحاتهم الغائرة، ولكنهم لو أداروا ظهورهم لله ثم جمعوا سلاح المشرق والمغرب فلن يدركوا به إلا ذلّ الدهر وخذلان الأبد، ولن يغني عنهم أن يعطف عليهم ذلك الفريق أو يشّد أزرهم ذلك الفريق كما قال سبحانه {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} آية 20 سورة الملك.
لقد عرفنا الطريق ولن نحيد
إن من فضل الله علينا نحن أبناء الجيل المسلم المعاصر أننا جيل الصحوة الإسلامية المباركة التي تجاوزت حدود الوطن العربي والإسلامي لتعمّ أرجاء الكون كله. هذه الصحوة والتي اعلنت عليها الحرب السافرة من الأعداء ومن ذوي القربى ومع ذلك فإنها ظلّت عصية على الاقتلاع والاجتثاث، لا بل إنها التي أصبحت رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية في كثير من البلدان العربية والإسلامية، هذا الجيل الذي تمثل ولادته ولادة قيصرية ومعجزة خارقة لولا أنه في الحقيقة قدر الله الغالب ووعده الذي لا يخلف، هذا الجيل الذي التفت إلى الماضي ليس ليبكي على الأطلال وإنما ليتعلم الدروس بل وليستلهم من ذلك الماضي معاني الشموخ والإباء والعزم الأكيد على أن تلك الأمجاد يجب أن تعود.
إنه جيل النصر المنشود الذي عرف للنصر طريقًا واحدًا لا ثاني له فاختاره وسار ومضى فيه. إنه يرفض أن يلتفت إلى كل أدعياء الشعارات البرّاقة والعبارات الرنّانة من الذين زعموا أن مفتاح النصر بأيديهم وأن طريقه هي طريقهم، وإذا بهم يوقعون الأمة في نكبات ونكسات وخيبات.
شباب الجيل للإسلام عودوا فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديمًا وأنتم فجره الزاهي الجديد
فبمولد هذا الجيل المبارك وقد صرخ يسمع الدنيا ويعرف الخلائق على هويته وهو يقول:
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي إنا بغير محمد لا نقتدي
إسلامنا نور يضيء طريقنا إسلامنا نار على من يعتدي
إنه بذلك يرسم ملامح المستقبل ويعقد العزم على أن طريق الهوان لن يستمر ولن يطول، لا بل إنه سيصبح من ذكريات الماضي. وإذا كان الهوان لن يستمر ولن يطول، فإن الذي سيكون ويستمر ويبقى هو العزّ والمجد والكرامة.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]