إن ما أقدم عليه قادة الانقلاب الدموي في مصر، بعد اختطاف الرئيس محمد مرسي وما أعقب ذلك من مجازر دموية حصدت قريبًا من ستة آلاف شهيد وآلاف الجرحى وعشرات آلاف المعتقلين، واقترن ذلك باعتقال القيادات، وقرار حل جماعة الإخوان المسلمين، وإغلاق عدد من وسائل الإعلام، واقتحام الجامعات، وفصل أئمة المساجد، وكان آخرها قرار حل حزب الحرية والعدالة؛ الحزب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، والذي حظي بنسبة 44.5% من أصوات الناخبين المصريين في أول انتخابات برلمانية بعد خلع حسني مبارك في ثورة 25 يناير 2011.
ولكن هوس وجنون وحقد الانقلابين لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى تصرفات وممارسات فاقت حدود المنطق، بل وصلت إلى الخيال في محاربة الشرعية، ومحاربة كل من يعارض الانقلاب وليس فقط جماعة الإخوان المسلمين. ولقد برز ذلك جليًا في السياسة الممنهجة باعتبار كل من يرفع شارة رابعة العدوية مخالفًا للقانون ويصبح ملاحقًا وتطاله عقوبات الانقلاب. ولقد طال هذا الإعلاميين؛ كحال المذيعة أماني كمال، التي اعتقلت مدة شهرين لأنها ضبطت ترفع شارة رابعة. وطال هذا القضاة الذين كانوا معتصمين في ميدان رابعة، وطال هذا الرياضيين المصريين الذين حازوا على ميداليات وأوسمة عالمية، لا لشيء إلا حقدًا من هذا النظام الانقلابي، وظنًا منه أنه بهذه الوسيلة سيقضي على كل مخالفي الانقلاب.
لقد رأينا سلطات الانقلاب تنتظر في مطار القاهرة بطل العالم في رياضة "الكونغ فو" محمد يوسف رمضان، الذي حاز على الميدالية الذهبية في وزن 90كم في البطولة التي جرت في روسيا، ولأنه كان يلبس سترة عليها شارة رابعة تعبيرًا منه عن تضامنه مع شهداء المجزرة وضد من ارتكبوها، فإن حماقة وجنون الانقلابيين وصل إلى حد انتظاره في المطار وسحب الميدالية الذهبية منه، ومصادرة المكافأة المالية التي حصل عليها، وشطب اسمه من اتحاد نادي "الكونغ فو" المصري وحرمانه من تمثيل مصر بعد اليوم.
ومثل مصير البطل محمد يوسف رمضان كان مصير اللاعب الدولي الموهوب أحمد عبد الظاهر؛ مهاجم فريق النادي الأهلي، والذي سجل هدف الفوز على جنوب أفريقيا بعد هدف زميله محمد أبو تريكة، فما كان منه إلا أن رفع بعد تسجيل الهدف شارة رابعة، وإذا بهؤلاء الحاقدين الموتورين ينسَوْن أن أحمد عبد الظاهر بطل مصري رفع اسم مصر عاليًا في عالم الكرة، وإذا بهم يعاقبونه عبر تجميد كل مستحقاته المالية وحرمانه من مباريات كأس الأندية، لا بل وعرضه للبيع لأي نادٍ يريد شراء خدمات أحمد عبد الظاهر خارج مصر.
ومثل أحمد عبد الظاهر، بل سبقه في مواقف الشرف البطل العالمي محمد أبو تريكة نصير غزة والمظلومين، والذي خلال تكريم وزير الانقلاب طاهر أبو زيد لفريق الأهلي لفوزه على جنوب أفريقيا فإنه رفض مصافحة الوزير قائلًا له: لأنك تمثل الانقلابيين فلن أصافحك. ثم بعد ذلك نفذ ما كان وعد به من اعتزال كرة القدم، وليس قبل تغريمه بمبلغ خمسين ألف جنيه لأنه لم يصافح الوزير الانقلابي، واعتبروا أن هذه إهانة للوزير.
هكذا إذن، وإن كانت الأمثلة كثيرة، يفعل الانقلابيون في مصر، والذين أصبحوا يتوجسون خيفة حتى من مجرد إشارة أو رمز يذكر الناس بمذابحهم الدموية في رابعة والنهضة وغيرهما، والتي يبدو أنها ستظل تلاحقهم حتى في نومهم. إنهم يعاقبون ويحاربون شباب مصر وأبطالها في كافة المجالات لمجرد مخالفتهم في الرأي والفكر، ولمجرد أنهم ضد انقلابهم، وهم الذين يدّعون أنهم جاءوا ليحاربوا استبداد الإخوان ولينقلوا مصر إلى واحة الديمقراطية واحترام الرأي الآخر.
لقد ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن انقلاب هؤلاء الانقلابيين الدمويين على الشرعية يوم 3/7/2013 كان بعد تنسيق وتشاور وتخطيط مع دول الرجعية العربية والمؤسسة الإسرائيلية، وأن فرح الإسرائيليين بهذا الانقلاب فاق كل التوقعات، إلى درجة أنهم قالوا إن السيسي يعتبر بطلًا قوميًا في عيون الإسرائيليين، ومنهم من قال إن التنسيق الأمني بين مصر والمؤسسة الإسرائيلية بلغ حدًا لم يسبق له مثيل حتى في زمن حسني مبارك، وإن حصار غزة وتدمير الأنفاق، التي أفشلت حصار الإسرائيليين لقطاع غزة لم يفعله حتى حسني مبارك نفسه.
إن ما حصل في مصر يصب بشكل مباشر في صالح المؤسسة الإسرائيلية، ولأن هؤلاء الانقلابيين قد نسقوا مع الإسرائيليين والأمريكيين، الذين سرعان ما تنكروا لقوانينهم التي لا تعترف بحكومات انقلابية، إلا أنهم في الحالة المصرية قد تصرفوا بما يخالف هذا، لكن الغريب واللافت أن الإسرائيليين لا يتصرفون مع المخالفين لهم من أبناء جلدتهم كما تصرف الانقلابيون في مصر، ولم يسحبوا الجوائز التقديرية والأوسمة من رموزهم وشخصياتهم الاعتبارية.
ولقد أوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" نهاية الأسبوع الماضي لقاءً مع أحد أشهر الأدباء والشعراء اليهود الإسرائيليين واسمه "نتان زاخ"، البالغ من العمر 83 سنة، والحائز على أعلى جائزة أدبية في المؤسسة الإسرائيلية والمولود في ألمانيا.
هذا الشاعر الإسرائيلي الكبير، راح في تلك المقابلة يهاجم بشدة وينتقد بلا هوادة السياسية الإسرائيلية والقيادة الإسرائيلية كذلك، واصفًا المؤسسة الإسرائيلية في المرحلة الحالية بأنها تشبه الإمبراطورية الرومانية في آخر أيامها، وقبيل سقوطها منذرًا بسقوطها وزوالها قائلًا: (نحن اليوم كما كانت الإمبراطورية الرومانية في آخر أيامها، فهنا يعلّمون فقط الكراهية والتحضير لقنابل نووية بدلًا من محاولة التقارب للجيران الذين سلبناهم أرضهم واخترنا العيش بينهم ولجوارهم).
لقد استل "ناتان زاخ" قلمه وأسال منه كل حبره الأسود على المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، إلى درجة أنه يشجع الشبان اليهود على الهجرة المعاكسة ولو إلى ألمانيا، لأنه أفضل لمستقبلهم قائلًا: (إن رغبتم في الهجرة إلى برلين فاذهبوا إليها، وإلى كل مكان ترون فيه الحياة أفضل). بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك لما اعتبر أن أجمل سنوات عمره التي قضاها هي تلك السنوات الثلاث عشر التي عاشها في بريطانيا، بعد هروبه من ألمانيا وقبل قدومه إلى إسرائيل، حيث قال: (لو كنت أعلم أن الصهيونية ستنتهي بهذه الدولة التي تعيش على السيف لبقيت في أوروبا. لقد هربت من دولة نازية لأجد نفسي في دولة فاشية).
يبدو أن الكاتب والشاعر الإسرائيلي؛ الحائز على أعلى جائزة أدبية تعطى في المؤسسة الإسرائيلية لا يريد أن يودع دنياه قبل أن يقول كل ما في ضميره ومشاعره وفكره وقلبه، حيث راح يفسر أسباب فاشية المؤسسة الإسرائيلية، وأن منها قدوم المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي؛ هؤلاء المتأثرين بالبلشفية وأيديهم ملطخة بدماء سكان الشيشان حيث يقول:(خلنا أننا سنستقبل مليون مهاجر من روسيا تأثروا بثقافة تولستوي، وفوجئنا بموجات من المتطرفين أمثال هؤلاء الذين يذبحون الناس في الشيشان. وإنني متشائم حيال مستقبل إسرائيل لأن هؤلاء القادمين الروس سيصوتون للسياسيين المتطرفين أمثال ليبرمان ونتنياهو).
ولم ينس الشاعر الإسرائيلي "نتان زاخ" قطاع غزة وسياسة حصارها وتجويعها التي تعتمدها المؤسسة الإسرائيلية، بل إنه اعتبر أن الصواريخ التي تطلقها المقاومة هي مشروعة ما دامت غزة محاصرة وما دامت الصواريخ لا تستهدف المدنيين.
ولم تنجُ وسائل الإعلام الإسرائيلية من قلم "نتان زاخ"، الذي أشار إليها بأصابع الاتهام، خاصة القنوات والمحطات التلفزيونية، مشيرًا إلى أنها توجه وتروج للعنف والفوضى الجنسية والحروب.
هذه بعض مقتطفات من اللقاء المطول الذي أجرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" نهاية الأسبوع الماضي مع الأديب والشاعر الإسرائيلي الكبير "ناتان زاخ"، والحاصل على أعلى جائزة أدبية تعطى في المؤسسة الإسرائيلية. ومع كل هذه الصراحة والانتقاد والسهام التي وجهها إلى السياسة والسياسيين الإسرائيليين إلا أننا لم نسمع أبدًا أن الحكومة الإسرائيلية قد قامت وسحبت منه الجائزة التي سبق ونالها، ولم تطالب بمعاقبته ولا سجنه ولا سحب الامتيازات التي يتمتع بها، ولم تطالب بطرده إلى ألمانيا، ولم تسحب عضويته من اتحاد الكتاب الإسرائيليين.
إنه يدافع عن غزة المحاصرة ويعتبر مقاومتها لإسرائيل مشروعة، بينما اعتبرتها سلطة الانقلاب إرهابًا يهدد مصر وأمنها القومي. إنه يهاجم الإعلام الرسمي التلفزيوني الإسرائيلي متهمًا إياه بالترويج للعنف وللفوضى الجنسية والأخلاقية، لنرى كيف أن الإعلام الرسمي المصري والقنوات الخاصة المملوكة لأتباع النظام البائد كلها تروج للإسفاف وتأييد الانقلاب، وأصبحت منابر لكل التافهين والمارقين من شعراء وكتاب وأدباء وصحفيي البلاط والانقلاب، بينما حرّمت على كل مخلص وشريف وصاحب ضمير يخالف الانقلابيين الدمويين.
لماذا ما تزال المؤسسة الإسرائيلية تفتخر بالأديب والكاتب والشاعر "نتان زاخ" وتعتبره أحد مبدعي الشعب اليهودي والمؤسسة الإسرائيلية والحائز على أعلى جائزة أدبية فيها، رغم هذه الانتقادات اللاذعة والهجوم غير المسبوق على السياسة الإسرائيلية، ولم تسحب منه الجنسية، ولم تسترجع الجائزة ولم ولم...، بينما هي حكومة الانقلاب الدموي في مصر تدرج اسم فضيلة الشيخ العلامة ورئيس اتحاد علماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي على قائمة المطلوب القبض عليهم حال وصولهم إلى مطار القاهرة، لا بل إن البعض منهم قد طالب بسحب الجنسية المصرية منه، وهو العالم الجليل والكاتب والمفكر الكبير وخطيب جمعة النصر خلال ثورة 25 / يناير في ميدان التحرير. فلماذا لا يتعلم الانقلابيون في مصر من أسيادهم الإسرائيليين في كيفية التعامل مع من ينتقدهم؟
لماذا يُحرم بطل العالم محمد يوسف رمضان من الميدالية الذهبية التي نالها بفوزه ببطولة العالم في "الكونغ فو"، وتصادر منه حال وصوله المطار، وقد رأينا الدول الحكومات المحترمة ترسل كبار مسؤوليها إلى المطار لاستقبال الأبطال الفائزين العائدين؟ ولماذا يُراد لأحمد عبد الظاهر أن يحرم من اللعب في النادي الأهلي، وأن يعرض للبيع وكأنه سلعة رخيصة لا قيمة لها في مصر، بينما هم يعلمون أن أشهر النوادي الرياضية العالمية تتسابق لتوقيع العقود معه، بينما هو يرفض ذلك ويصر على أن يظل يلعب في مصر؟ هل جريمته النكراء التي ارتكبها أنه رفع شارة رابعة وأنه ضد الانقلاب ومع الشرعية وأنه متضامن مع أهالي الشهداء؟
أيها الانقلابيون في مصر؛ ألا تتعلمون من أسيادكم الذين يرقصون فرحًا بكم وبأعمالكم الإجرامية وبتدميركم لمصر وشعبها ومقدراتها، وكل ذلك كرمى لعيون المؤسسة الإسرائيلية؟ ألا تتعلمون من أسيادكم كيف تكون العلاقة مع أصحاب الرأي المخالف، وأن مخالفتهم لكم لا تعني الحكم عليهم بالإعدام والاجتثاث والاستئصال؟!
ولقد قالها "نتنان زاخ"؛ هذا الشاعر والأديب الإسرائيلي في مقابلته تلك: (إن الصهيونية فشلت في تحقيق مرادها، وإن بلاد الحليب والعسل التي وعدت بها تحولت حكومة شرور وفساد).
وإنكم أنتم أيها الانقلابيون في مصر، إذا كنتم تختلفون مع أسيادكم في المؤسسة الإسرائيلية في التعامل مع الآخر، إلا أنكم وإياهم متشابهون جدًا جدًا في أنكم فشلتم في تحقيق مرادكم من الانقلاب على الشرعية، وفشلتم في إعادة الأمن والاستقرار الذي زعمتم أنه فُقد في مصر خلال السنة التي قاد البلاد بها الرئيس الشرعي محمد مرسي، وأن مصر الديمقراطية ومصر الحريات، ومصر الرخاء، ومصر الموحدة، ومصر القوية، ومصر الغنية التي وعدتم بها ما هي إلا سراب ووهم.
إيها الانقلابيون؛ لقد قال "نتان زاخ" عن دولة أسيادكم في المؤسسة الإسرائيلية إنها تشبه الإمبراطورية الرومانية في آخر أيامها، وإنني أقول لكم إنكم أنتم كذلك بإذن الله في أواخر أيامكم، وإن انقلابكم سيفشل.وكما كتب كذلك الصحفي "ناحوم بارنيع" في صحيفة "يديعوت أحرونوت" قبل سنتين عن صديقة اليهودي الأمريكي كاتب التاريخ، عندما كان عند طبيب الأسنان الذي سأله عن آخر ما يكتبه، فقال له: إنني أكتب تاريخ المؤسسة الإسرائيلية؟ فقال له الطبيب: "إذن أنت من كُتاب القصة القصيرة"، يقصد أن تاريخ المؤسسة الإسرائيلية وعمرها هو تاريخ قصير.
أيها الانقلابيون إنكم أنتم وانقلابكم قصة قصيرة، وهو فيلم مصري قصير، كاتب السيناريو فيه من الهواة، والمخرج غبي والممثلون فاشلون، فكاتب السيناريو هو محمد حسنين هيكل، والمخرج هو خالد يوسف والممثلون هم السيسي ومحمد إبراهيم، فتبًا لهؤلاء وأولئك.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]