تأثر (نلسون مانديلا) كثيرا بأسلوب الزعيم الهندي المهاتما غاندي، الداعي لاتباع الأسلوب السلمي في المقاومة، ولكنه في نفس الوقت قاد، بعد الإفراج عنه في عام 1961م، المقاومة التي كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطني جديد يعطي الأفارقة حقوقهم السياسية!! وهكذا واجه مانديلا الظلم بأسلوب متكامل يجمع بين السياسة والمقاومة، لأنه كان يدرك أن (لغة السياسة) لوحدها مع الظالم لن تنفع وستبقى مجرد استجداء لا يسمن ولا يغني من جوع، (ولغة المقاومة) على أهميتها مع الظالم لا بد لها من رديف هام ألا وهو (الخطاب السياسي)، الذي يناصر المظلوم ويحدد مطالبه ويعري الظالم ويدمغ باطله!!
وكم هو شعبنا الفلسطيني بحاجة أن يتقن الجمع بين (لغة المقاومة) و(لغة السياسة)! وكم هو شعبنا الفلسطيني بحاجة أن يدرك أن (المفاوضات) لوحدها ستتحول إلى (لغة الضعيف الفلسطيني المظلوم) مع المحتل الإسرائيلي الظالم، وستبقى مجرد نبرة توسل واستعطاف وتسول لن تجد لها آذانا صاغية في يوم من الأيام لدى (المحتل الإسرائيلي الظالم)!!
ولو تمسك مانديلا بلغة السياسة وحدها لظل النظام العنصري مهيمنا على جنوب أفريقيا حتى الآن، ولذلك فإن الذي يظن من شعبنا الفلسطيني أن المفاوضات لوحدها ستنفع مع (المحتل الإسرائيلي الظالم) فهو يكرس، من حيث لا يعلم ولا يقصد، بقاء الاحتلال الإسرائيلي لعقود طويلة قادمة.
ومن جانب آخر كان مانديلا يدرك أن مقاومة الظلم لا بد لها من ثوابت تحفظ على المظلوم هويته ومطالبه ورؤيته ومواقفه. ولذلك قال يصف نفسيته التي حرص على التمسك بها لدى محاكمته : (أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزي لأبرز المعنى الرمزي لكوني رجلا أفريقيا يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافتهم. كنت على يقين أن ظهوري بذلك الزي سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها)، وهي محكمة فريدة كم نحن بحاجة أن نتلقفها كشعب فلسطيني كي ندرك أن الإصرار على التمسك بكل الثوابت الفلسطينية، التي تشمل - من ضمن ما تشمل- حق العودة وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس المباركة المستقلة وتحرير المسجد الأقصى المبارك وكنس الاحتلال الإسرائيلي والانتصار لكل أسرى الحرية، إن التمسك بكل هذه الثوابت سيجعل من شعبنا الفلسطيني كبيرا في عيون أهل الأرض، بل وسيجعل منه كبيرا حتى في عيني (المحتل الإسرائيلي الظالم)، ولكن إبداء الاستعداد – ولو بحسن نية – للتنازل عن أي من ثوابت القضية الفلسطينية بالتدريج، هو الخيانة بعينها لكل مسلم ولكل عربي ولكل فلسطيني، لأن فلسطين ليست حقا فلسطينيا فقط بل هي حق إسلامي وعربي كذلك.
ولأن مانديلا كان يدرك أن قيمة دوره بقيمة تمسكه بثوابت قضيته فقد رفض، في السبعينات من القرن الماضي، عرضا بالإفراج عنه مقابل عودته لقبيلته في "ترانسكاي" والتخلي عن المقاومة. كما رفض عرضا بالإفراج عنه في الثمانينيات من القرن الماضي مقابل إعلانه رفض العنف!! ولذلك آثر مانديلا قضيته على شخصه، وقدم مصلحة قضيته على مصلحته الذاتية، ورفض الكرسي والمنصب والمال والجاه مقابل التخلي عن قضيته ولو قيد أنملة!! ورضي لنفسه أن يعيش أسيرا في سجن "جزيرة روبن" الذي كان أكثر سجون جنوب أفريقيا إثارة للرعب في فترة الفصل العنصري، ورضي لنفسه أن يقضي هناك عقودا من الأشغال الشاقة يعلم زملاءه فن الابتسامة، وإن كان أحدهم قد غدا أسيرا في عزلة خرساء وخانقة في السجن المشيد من صخور تعصف بها الرياح وسط مياه تمتلئ بأسماك القرش قبالة ساحل كيب – تاون لفترة امتدت ثلاثة عقود، ظل خلالها مانديلا الذي كان عمره آنذاك ستة وأربعين عاما يكسر الصخور في محجر جيري مع أعضاء بارزين آخرين في المؤتمر الوطني الأفريقي كان أشهرهم رفيق كفاحه (أحمد كاثرابا) حتى نجحوا في تكسير النظام العنصري، رغم أن كل أربعة منهم كانوا يقيدون بسلاسل تربطهم معا، وكانوا يعملون من ثمان إلى عشر ساعات يوميا على مدار خمسة أيام كل أسبوع. نعم! ظلوا صابرين صامدين حتى كسروا أنف النظام العنصري وحطموا غروره واضطر الرئيس الأسبق فريدريك دي كلير إلى إنهاء حكم الأقلية البيضاء في عام 1990م ليتحول سجن "جزيرة روبن" فيما بعد إلى متحف ومزار سياحي شهير!! وهذا يعني أن السجن ليس قهرا، وأن القيد ليس عيبا، وأن السلاسل ليست عارا.وهذا يعني أن (أسير الحرية) لن يحقق حريته إلا إذا حقق حرية قضيته أولا.ولذلك إذا ظن المبعوث الأمريكي "كيري" أنه سينجح في دفع شعبنا الفلسطيني للتنازل عن ثوابته أو بعضها مقابل إطلاق سراح عشرات الأسرى السياسيين من شعبنا الفلسطيني فيجب على شعبنا الفلسطيني أن يردد من جديد في وجه "كيري" صرخة عطا الزير عندما صرخ في سجن عكا :
يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا نور فجر يتسامى
ثم ها هو مانديلا انتخب كأول رئيس لجنوب أفريقيا في عام 1994م، ثم أعلن عن رغبته في التقاعد في عام 1999م، أي بعد فترة حكم واحدة، لأنه أدرك أنه لم يسع لتحرير شعبه من تسلط النظام العنصري حتى يتسلط عليهم باسم أنه الرمز الأوحد والممثل الشرعي الملهم، الذي عجزت نساء الأرض أن تلد مثله، فاستقال هذا الجبل الشامخ الذي اسمه مانديلا، وتنازل عن كرسي الحكم لترسيخ مبدأ تداول السلطة في مسيرة شعبه، ثم أشغل نفسه بعد التقاعد بالأعمال الخيرية، ومن بينها مؤسسة مانديلا الخيرية لمكافحة الإيدز وصندوق نلسون مانديلا للطفولة. فهل نرى نحن الشعب الفلسطيني في هذا التقاعد المانديلي حكمة نحن أحق الشعوب بها وبالتقاطها ؟! ثم مات مانديلا ودفن في قرية "كونو" بناء على طلبه بالقرب من والديه وثلاثة من أبنائه، بعد أن قال جملته المشهورة والمأثورة : "نحن نعلم تمام المعرفة.. أن الحرية لا يمكن أن تكتمل دون تحرير فلسطين".
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]