نيسان هو أحد أجمل أشهر السنة. الجو لطيف والبحر هادئ وعادة ما نكون في هذا الشهر على موعد مع السردين في البحر وثمار اللوز تكسو جبالنا وتلالنا باللون الأخضر والزنبق والحنون وصابون الراعي حتى تتحوّل الأرض الطيبة المباركة في فلسطين إلى سجادة كبيرة أبدع صانعها. في نيسان تعقد الحمضيات زهرها لتتحوّل إلى ثمر لونه برتقالي وطعمه شهي إيذاناً بقدوم الربيع بكل ما يحمله من عبق الجمال والسحر والبهجة والسرور. هو موعد رباني مع الطبيعة الخلابة والخير الكثير,هكذا عهدنا نيسان منذ الازل. وهل للربيع وجه آخر في عالمنا؟.
نيسان يحمل في طيات الذاكرة ما يناقض تماماً الصورة التي حاولت أن أرسمها للقارئ حول ما يسمى بالربيع. قبل سنوات قليله وحتى يومنا هذا نعيش ربيعاً عربياً مختلفاً عما ذكر أعلاه. ربيع فيه القتل وسفك الدماء تحت مسميات مختلفة أمسى سيد الموقف. واكتست الأرض باللون الأحمر ليس لزهرة الحنون بل لأشلاء أطفال وشيوخ ونساء. لون الدم الذي تحوّل سريعاً إلى اللون الأسود الذي عم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وطني العربي تحوّل إلى عالم من الفوضى وعدم الاستقرار, إلى مخيم لاجئين إلى ساحة الوغى يسقط فيها كل يوم عشرات القتلى. وشاشات التلفاز لا تكف عن عرض الصور التي كانت مرة ممنوعة كي لا نمس بالأطفال ولكن اليوم أمسى الأطفال جثثاً هامدة ناظرة إلى السماء تنادي الحق واعرباه.. واإسلاماه.. وامعتصماه !! مهما كانت الجهة التي سنوجه إليها أصابع الاتهام النتيجة واحدة ووخيمة علينا جميعاً وإن غداً لناظره قريب. عندما يغسل القاتل يديه من الدم وينظر إلى المرآة وسيقول من أنا ؟ اليوم قاتل وغدا مقتول كما جاء في الحديث "القاتل يقتل ولو بعد حين".
المنشية ليس منتزها. ولا ساحة ألعاب نقضي فيها نهاية الأسبوع. وحسن بك ليس في تل أبيب كما يعتقد البعض. بل هو معلم من معالم مدينة يافا وكان أكبر أحيائها حيث وصل عدد سكان الحي 15000 نسمه. ومئذنتها تشهد على ما جرى هناك قبل ستة عقود في اليوم والساعة والدقيقة. من منا يعرف أن يوم 22 نيسان هو اليوم الذي شنت فيه الحركات الصهيونية هجوماً كاسحاً على حي المنشية. لم تعد القضية مجرد اضطرابات أو مناوشات كما نسمع اليوم. في تلك الأيام وبالتحديد ما بين 22 نيسان و25 نيسان دكت الحركات الصهيونية من الشمال أكبر حي في مدينة يافا. هو حي المنشية الشاهد على قصف عنيف بقنابل المورتر البريطانية التي أطلقت من تل أبيب إلى يافا لمدة ثلاثة أيام. دب الرعب وتشرّد الأهل .. منهم من سار باتجاه الميناء ومنهم من اختار طريق البر ومنهم من بقيت أشلاؤه تكسو جدران البيوت المهدمة. أكبر أحياء مدينة يافا تحوّل خلال ثلاثة أيام إلى أطلال حي مهجور خالٍ من السكان( ونحن اليوم نسهر ونلهو ونلعب على أطلال وأشلاء أبناء حي المنشية). خلال أيام معدودات تحوّلت عائلات يافا من سكان المنشية إلى لاجئين يسكنون مخيمات اللجوء في غزة ومصر ولبنان والضفة الغربية. عائلات يافا العريقة التي كانت توزع الخير على العالم أجمع وقفت في طابور المؤن لتطعم أطفالها وعاشت في الخيام وعالمنا العربي يقف وقفة المتفرج. بل وأكثر من ذلك حيث قام الجنود العراقيون الذين قدموا لنجدة فلسطين بالسطو على محلات الذهب والخمور. ينهبون كل شيء من عروس فلسطين ودرة الشرق كما جاء في شهادة أحد القادة العسكريين في يافا الذي واكب الأيام الأخيرة لسقوط يافا. كان ذلك في موسم الربيع. ربيع عربي بامتياز . كما هو الحال اليوم عمالة وخيانة وأموال طائلة تصب في دعم القهر والتشرّد والفساد العربي تحت راية الإسلام وآيات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
كتاب "يافا للأبد" فتح جروحاً عميقة لم تندمل بعد. هذا الكتاب بأسلوبه الراقي والمتميز ترك أثره علي فيه كلمة حق لا بد أن تقال وفيه ما نحمل من مسؤولية ما حدث عام النكبة وفيه رسالة إلى كل طفل فلسطيني في يافا أو في اليرموك أو على شواطئ غزة ولبنان. نحن شعب وقع في فخ الخيانة العربية من جهة وضحية لأطماع صهيونية من جهة أخرى. ومرت ستة عقود ماذا تغيّر؟ أترك الجواب لك.
عبد القادر سطل في( ربيع 2014 )
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]