الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الرجولة خصلة نبيلة وصفة جميلة قد أجمع العقلاء على مدحها والدعوة إليها في قديم الزمان وحديثه، إنها أمر يتفق عليه الجميع؛ مؤمنُهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، عاقلهم وسفيههم، بل إنك ترى كثيرا من الحمقى والسفهاء يبرّرون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة. ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست بالمسافة القريبة، فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم.
ولا شك ان الله عز وجل بعث نبينا صلوات الله وسلامه عليه ليتمّم مكارم الأخلاق، ليعمق الأخلاق الكريمة في النفوس ويستأصل الأخلاق المرذولة منها، أتى بالدين السمح والأخلاق النبيلة، وكان في ذلك كله قدوة حية ماثلة أمام الأعين، تتجسد فيه معاني الرجولة الحقة في أجلى معانيها وأبهى صورها، حتى إن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا بحقّ مثالا لتلك الرجولة، فأبو بكر يصدّقه وقد كذبه الناس، وعمر يسلم فيعلن إسلامه ويقارع به صناديد قريش، وعلي يفديه بجسده فينام مكانه يوم الهجرة، (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)، فإن أردنا تتبع مقاماتهم في الرجولة رضوان الله عليهم فإنه يطول بنا المقام.
وتراثنا الإسلامي يحفل بنماذج من الرجال المؤمنين الذين صمدوا أمام عواصف الباطل برباطة جأش وقوة نفس، فوقفوا على قمة الرفعة شامخين بإيمانهم معتزين بدينهم وشرفهم، يعيشون بأجسادهم بين الناس وقلوبهم وأرواحهم معلقة بخالقها.
واليوم وللأسف لدينا أزمة رجولة حقيقية، فبعد أن كان نقص الرجولة شيئا كالموت أصبحت ترى النقص هو الغالب على أكثر الرجال، ففي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم في عصر التقنية والاتصال تحوَّل العالم إلى قرية صغيرة، فارتقى الناس في عالم المادة، وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم، صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض، تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم حول شهواتهم وأهوائهم.
وورث المسلمون وأحفاد العرب الأوائل ورثوا من هؤلاء العفن والفساد، ورثوا منهم مساوئ الأخلاق وساروا وراءهم في لهاث وسعار، فلا للمدنية والحضارة أدركوا، ولا لأخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة، وصرت بحاجة إلى أن تذكر الكثير من الرجال بسمات الرجولة، وتطالب الشباب أن يكونوا رجالا لا صغارا، بل حتى أن تذكر بعضهم بأن يكونوا ذكورا لا إناثا، فترى بعضهم يجتهد في محو معالم الرجولة حتى من وجهه وكأنه يمحو العار عنه فلا تفرق بينه وبين الأنثى إلا بعسر.
إن اللباس وقصة الشعر وطريقة التحدّث كلّها لها تأثير على النفس، فلباس الرجولة يورث في النفس الرجولة، ولباس الميوعة يهدم النفس ويورث الضعف، ألا ترى كيف غيّر مصطفى كمال أتاتورك ذلك البائس لباس الأتراك فألبسهم القبعة الغربية؛ لا يقصد من إلباسهم إياها إلا تغيير ما تحت القبعة، إنه تغيير المبادئ والأفكار والأخلاق والقيم، تغيير الانتماء السلوكي وإن لم يشعر اللابس، أصبحنا نراقب بحزن عميق الكثير من أحفاد الصحابة قد نبذوا الرجولة وتنكّروا للشيم النبيلة.
فما يزال الكثيرون منهم يتغرّبون بلباسهم حتى تغرّبوا بطباعهم، فلا يرى بعضهم بأسا أن يُرى على حال سوء في خلق أو دين، وحجّة أحدهم: أنني شاب فدعني أمتّع نفسي بالشباب، وهل عامة سكان القبور إلا من الشباب؟! ثم ما هذه المتعة المقدسة؟! هل هي ممدوحة على كل حال؟! فقد ذم الله عز وجل الكفار في تمتعهم حين قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
إن أمتنا بحاجة ماسة إلى الرجال الصادقين الذين هم على استعداد أن يتحمّلوا المشاق في سبيل النهوض بالأمة، كل في مجاله الذي هيأه الله له، بحاجة إلى ذلك الرجل صاحب المروءة والشهامة والنخوة، صاحب السريرة النقية والقلب الحي المتوقد، بحاجة إلى ذلك الرجل الذي يتمعر وجهه من فعل ما يشينه، نريد رجلا يثب لمساعدة الآخرين ونفعهم وثبا لا يريد منهم جزاء ولا شكورا، شيمته التواضع وعادته الكرم، ليس غبيا مغفّلا ولا منغلقا أو غير واع.
إن الرجولة لقب لا يستحقه كل أحد، بل إن من المؤمنين من لا يستحقه، يقول تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ).
الرجولة ثبات على الحق، ومحافظة على العبودية لله، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وتعال على كل ما يشغل الناس ويلهيهم عن ذكر الله تعالى وطاعته والتقرب إليه، يفهم هذا من وصفه سبحانه وتعالى لهذا النوع من المؤمنين بالرجولة في قوله عز وجل: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]