لم تستطع ميّادة عسّاف إخفاء معالم الجزع والخوف على مستقبل عائلتها وأبنائها، وهي تحمل الماء مُتّجهة صوب خيمة الاعتصام المُقامة على أرض خالية وسط حي "دهمش" المُهدد بالهدم، تقدّمه لمن جاء متضامنًا مع قضية باتت تشغل الرأي العام في الداخل الفلسطيني، وتتجه بأنظار قياداته صوب ذلك الحيّ الصغير الذي يمثّل حكاية مأساة شعب وقضية.
وتقضي عسّاف، وهي أمّ لأربعة أطفال، جُلّ وقتها في ترتيب خيمة الاعتصام التي يؤمّها المتضامنون من شتى بلدات الداخل الفلسطيني نهارًا، وتهدئة روع أبنائها ليلا، وهم الذين سرقت المخططات الإسرائيلية لهدم منزلهم أحلام طفولتهم، وجمّدت في نفوسهم فطرة اللهو واللعب في فناء البيت.
مستقبل يكتنفه الغموض
"لم نعد نخطط لأي مستقبل"، تقول الزّوجة ومعالم الحزن تأبى أن تفارق وجهها، "منازلنا مهددة بالهدم منذ سنين على الرّغم من مساعينا لإبطال القرارات، والعودة لحياة الاستقرار من جديد، فكيف نخطط لمستقبل الأبناء ونحن الذين نبيت ونصحو خائفين على مصير منزلٍ أخذ من وقتنا ومالنا ما لا يمكن تعويضه".
لا حديث يعلو في الحي فوق حديث الهدم، فعائلة عسّاف التي تعاني جراء المخطط الإسرائيلي منذ عام 1995 تعيش في هذه الأثناء في منزل الجّدة للأب، بعد أن صدر قرار بمنعها من المكوث في المنزل، "ليس الهدم وحده ما يخيفني، فمستقبل أبنائي يشغلني ليل نهار"، تقول ميادة، "فهم في حالة نفسية صعبة، خوفٌ مُزمن، ورهبة تصيبهم لدى مشاهدة دورية للشرطة الإسرائيلية، يخشون على منزلهم تارة، وعلى أنفسهم تارة أخرى، فقد صاروا ضحايا لـ"فوبيا" الضرب، والقتل الذي عززته في مخيتلهم مشاهد قتل الأطفال خلال العدوان على غزّة".
ويتربّص شبح الهدم الاسرائيلي، بذريعة البناء غير المرخص، بـ19 منزلا تسكنها عائلات جاءت إلى " دهمش" لاجئة عام 1950.
فصول نكبة لا تنتهي
وتعود جذور قضيّة سكان دهمش إلى نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، حين هجّرت القوات الصهيونية الغازية مئات الآلاف من أبناء الشّعب الفلسطيني في الداخل والشتات، فلجأ أهالي دهمش إلى ذلك الحي الصغير الواقع في منطقة بين مدينتي "اللد" والرملة"، رافضين هجرة أرض الوطن.
واضطرت السلطات الاسرائيلية، بعد "إعلان الاستقلال"، إلى الخضوع لمطالب المُهجرين من قرية " المجدل" و" بيسان" وغيرها من القرى الفلسطينية التي صارت اليوم خاوية على عروشها، وتعويضهم عن أرضهم المُحتلة بأراضٍ تسمح لهم بالبقاء في الوطن، فكانت أرض "دهمش" حصّتهم، التي سُجّلت بأسمائهم في السجل العقاري الإسرائيلي "الطابو" بشكل رسمي.
لكن وعلى الرّغم من حملهم لكافة المستندات القانونية فإن اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي لم ينصف أهالي "دهمش" كما كانوا يتوقعون، "ولكنها القشّة التي كنّا نحسبها آخر ملاذ للغريق"، يقول سفيان عسّاف، وهو أحد سكّان الحي المهدد منزله بالهدم.
وأصدرت المحكمة المركزية في مدينة " اللد" مؤخرًا قرارا بتجميد قرارات الهدم الإدارية لثلاثة منازل في الحي، ومن بينها منزل عائلة سفيان، إلى حين بتّ المحكمة بأمرها بشكل نهائي، بينما من المقرر أن تنظر في مصير 16 منزلا أخرى خلال الفترة القادمة.
مسرحية القضاء الإسرائيلي
ويعتقد سفيان عسّاف أن المحكمة المركزية تقدّم مجرد عرض مسرحي، "فالأمر ليس معقدًا لهذه الدّرجة، الأرض ملكنا ونمتلك جميع الوثائق الثبوتية، ومع ذلك يتهموننا في البناء غير المرخص، وأننا شيّدنا المنازل دون الحصول على ترخيص رسمي، بينما الحقيقة أننا لا نعرف مكانًا نبني فيه غير هذه الأرض".
وقال إنه في الوقت الذي يقف فيه أهالي "دهمش" في وجه مخططات تهدف إلى هدم منازلهم وتهجيرهم من جديد؛ تقام العمارات والأبنية لليهود مقابل الحي ومن حوله بشكل مثير للاستفزاز، "أتراها ضاقت علينا وحدنا؟ أين الإنصاف المُدّعى، وهل تسري القوانين على أرضي فقط؟ كيف يمكن لي أن أقبل بأن أهجر وعائلتي من جديد، بينما تقام المباني على أراض لا تبعد عن أرضي؟".
ولم تكتف السلطات بالتهديد بهدم منازل سكان الحي، فعملت على محاصرته بسكّة القطار ومخطط إقامة محطّة لتشغيل وصيانة القطارات، التي من شأنها أن تجمّد أي حلم مستقبلي في البناء على أرض دهمش، وتساهم إلى حد بعيد في فصل الحي عن امتداده لمدينتي اللد والرملة، وتمهّد الأرض للفصل بين أبناء الشعب الواحد.
وصدر قرار المحكمة المركزية في اللد، بمنع ثلاث عائلات من العودة إلى منازلها، إلى جانب غرامة مالية بلغت 100 ألف شيكل للعائلة الواحدة، لضمان عدم الاستمرار بالبناء والعيش في المنزل، ما أثقل كاهل الأهالي، "مستحيل أن نستطيع تسديد هذه الغرامات، بل لا يعقل أن نسددها"، يقول عسّاف، "فنحن على يقين أن قرار المحكمة مجرّد قرار مؤقّت وجائر".
ظلمٌ وتهويد
ويرى عسّاف أن قرار المحكمة المركزية، جاء من أجل إرغام أهالي دهمش بشكل التفافي على تسديد ثمن هدم منازلهم المزمع قريبًا في حال لم تؤت جهود الأهالي والمتضامنين معهم أكلها، ولم تستطع ثني السلطات عن المضي قدمًا في مخططها التهجيري، "باختصار، ما يخطط لنا في الخفاء هو أن تهدم بيوتنا، وأن ندفع نحن ثمن الهدم مرتين، مرّة عند خروجنا منها، ومرّة عندما نسدد تكاليف آليات الهدم"، يقول المواطن، "أيّ ظلم هذا؟"
المخططات الهادفة إلى تهجير المواطنين الفلسطينيين هي امتداد لمخططات التهويد منذ عام 1948 في المدن الساحلية والمختلطة، والهادفة إلى مصادرة ما تبقى من أرض في يد الفلسطينيين، ودفع من بقي منهم إلى الهجرة طوعًا نتيجة التضييق المستمر في الأرض والمسكن، وكافة أسباب العيش الكريم.
ويشير سفيان عسّاف إلى أن "المساعي الإسرائيلية لإعادة فصول النّكبة من جديد لن تقتلعنا من أرضنا، فليهدموا كما يشاءون، نحن هنا لن نغادر هذه الأرض، حتى لو اضطررنا إلى ضرب أوتاد الخيام في الأرض، وعلى هذا ربينا أبناءنا".
عقاب الطفولة .. بعصا التهجير
وقال إن "حديث الأطفال في الشارع هو حديث الهدم أيضًا، فكيف يمكن لطفل جزع لا يسمع في المنزل سوى ما يتم تداوله ليل نهار حول المصير والمستقبل في ظل الهدم أن يلهو ويرتع بسعادة كباقي أبناء جيله، أطفالنا ليسوا كالآخرين، ولا يزيدهم الهدم إلا إصرارًا على البقاء، هكذا تعلموا مُذ قدّر الله أن يُخلقوا في حيّ مهدد بالزوال".
وبينما، يحتشد العشرات من المواطنين في خيمة الاعتصام على أرض دهمش؛ يجلس عدد من أطفال عائلة عسّاف على درجات منزلهم الذي لم يقضوا داخله من أوقات الطفولة إلا قليلا.
يتهامس الأطفال على استحياء، يلهون ببعض الرّمل المندثر على درجات لم تطأها الأقدام منذ زمن، تكاد تعرف إصرارهم بأعينهم، التي تنضح تحديًا وصمودًا، وكأنهم اتخذوا بينهم عهدًا على التشبث بالمنزل، تقودهم أحلام العودة إلى غرفتهم الصغيرة داخله.
"وين أروح"، يقول الفتى إبراهيم عسّاف، بصوت المكلوم الذي تكاد تخنقه العبرات، "هذا منزلنا، ولا أعرف أرضا غير أرضي هذه، فقد خلقت هنا، ولا أفكّر بالمغادرة مهما كلّف الثمن".
ويراقب الفتى عسّاف الأحياء اليهودية المجاورة لحيّه المهدد بالزّوال، "لماذا يلهو أطفالهم ليل نهار، بينما لا أجد أنا وقتًا إلا لمراقبة المنزل خشية مباغتتنا بالجرافات؟ أليست هذه أرضنا؟ لماذا يعاقبوننا على أحلامنا البسيطة؟ أليس من حقنا أن نعيش فيها كما نريد، وأن نشيّد منزلا مع حديقة؟".
مئات السّكان .. في مرمى الهدم
حيّ " دهمش" المهدد بالزّوال يؤوي نحو 700 نسمة، جاءوا من شتى أنحاء البلاد قبل نحو 64 سنة، وحصلوا على حقّهم في الأرض، ومن بينهم الحاج أبو هاني (66 سنة)، الذي كان شاهدًا على فصول النّكبة والتهجير.
يقول أبو هاني إن "العربي في هذه البلاد يبدو بلا حقوق، منسلخا عن محيطه وامتداده الطبيعي في ظل انشغال الأمّة بقضايا وهموم تصرف انتباهها عن قضيتها الأساس، ما جعل الاستفراد بنا هيِّنًا".
وأضاف: "الجميع يتحدث عن هدم ثلاثة منازل في الوقت الحالي، و16 منزلا مستقبلا، بينما المخطط الأساس يهدف إلى هدم نحو 73 منزلا، هي الحي بأكمله، فنظرتي لا تخطئ، وأكاد أجزم أن هناك مخططا لتهجير الحي بأكمله".
وليست نظرة الحاج أبو هاني في حاجة إلى مزيد من التأويل لمن يقف على حدود "دهمش" ويرقب تغوّل البناء الاسرائيلي، وتوسّع مخططات البناء المجاورة التي تكاد تخفي معالم الحي وتطبق عليه من كل جانب، إضافة إلى الخط الحدودي الذي رسمته السكة الحديدية "سوف نبقى هنا، رغم إدراكنا بأن الآتي أشد وأعظم، وأن هناك من يخطط ليل نهار لاقتلاعنا، حتى لو اضطررنا إلى افتراش الأرض والتحاف السماء"، يقول الحاج بنبرة لا تشي إلا بمزيد من الإصرار على البقاء.
فن البقاء
ويوضح أبو هاني أن أهالي دهمش مثل غيرهم يتكاثرون بشكل طبيعي، "ولكننا نختلف بأننا لا نجد مكانا نعيش فيه بعد أن ضاق الحي نتيجة لأوامر الهدم المتكررة.. لا يبني في المنطقة إلا يهودي، أما نحن فما نلبث أن نشيد منزلا إلا وينتظرنا قرار هدمه، ومع ذلك سوف نبقى نبني متحدين كل هذه المخططات، فعلى أرض فلسطين حقًا ما يستحق الحياة بكرامة، مهما حاولوا تهجيرنا منها، ورغم معاناتنا التي لا تتوقف".
ويقضي الحاج الستيني معظم يومه، في خيمة الاعتصام التي تزورها قيادات المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني، ينقل معاناة أهل الحي، إلى جانب الاستثمار في توعية الأطفال.. "أحاول جاهدًا إدارة الحديث مع الأطفال، هم في حاجة إلى توعية في اتجاهين؛ الأول التوعية التي تهدف إلى إزالة ما علق في قلوبهم من خوف نتيجة للتهديد المستمر، والثاني: هي توعيتهم وبث الروح الوطنية وروح البقاء فيهم، حتى أضمن أن تبقى جذورنا في هذه الأرض، فلا يعقل أن نعاني فصول النّكبة مرتين وأن نُهّجر مرّة أخرى داخل وطننا".
نقلاً عن فلسطينيو 48
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]