في الطريق الى الساحة التي ستطلق على اسمه بعد حين، يوم الخامس من تشرين ثاني 1995، كان “اسحق رابين” مثل أي قائد سياسي يحضر الى مثل هذه الأمكنة يفكر فيما سيقول، كانت الساحة مليئة، وكانت تلك الليلة من اللحظات التي ستغير مجرى السياسة الاسرائيلية، اللحظة التي ستعمق حالة الاستقطاب، وهي على أية حال لم تكن وليدة تلك الليلة، في تلك الليلة وصلت الحالة الى اوجهها، كانت تلك لحظة فاصلة، ومؤسسة لمرحة جديدة.
ما زال بعض الاسرائيليين يرفض حتى اليوم قبول الرواية الرسمية بشأن مقتل "رابين"، ويحيل هؤلاء الرواية الى المؤامرة التي حاكتها قوى "خفية"، للتخلص منه, لأسباب تخص التسوية السياسية التي كانت وقعت قبل ذلك بعامين.
في الامتحان النهائي لم يكن مهما السؤال حول الذي يقف خلف قاتل "رابين"، ليست المجموعة ولا الاشخاص ولا الخطاب الذي شبه "رابين" برجل الـ"اس .اس" النازي، ما سيحدث بعد مقتل "رابين" في السياسة الاسرائيلية هو ما سيكون بشرى مرحلة جديدة، دشنتها رصاصات "يغال عمير"، وقادها "بنيامين نتنياهو" الذي انتخب كأول رئيس حكومة في انتخابات مباشرة لرئاسة الحكومة في اسرائيل، بفارق اصوات ضئيلة مع منافس من الوزن الثقيل هو "شمعون بيرس" وريث "رابين".
في الحسابات السياسية البسيطة، وحسابات استطلاعات الرأي العام كان من المفروض ان ينتخب "بيرس" لرئاسة الحكومة 8 اشهر بعد مقتل "رابين"، ولو من باب معاقبة الجمهور المتهم بقتله، لكن النتيجة في ايار 1996 جاءت على "غير المتوقع"، وقد يكون متوقعا لمن قرأ في عمق الحالة.
في طريقه الى مكتب "رئيس الحكومة" كان "بنيامين نتنياهو" يؤرخ لمرحلة جديدة في السياسة الاسرائيلية، ولا احد حتى الان يستطيع ان يجزم ان كانت الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة هي التي انهت مرحلة الاستقطاب الثنائي بين المعسكرين، ام ان الحالة الجديدة هي التي اعادت تقسيم السياسة من جديد.
يرى "اوري رام" في كتابة "عولمة اسرائيل" ان:" المجتمع الاسرائيلي ومنذ بداية سنوات التسعين يمر بأزمة عميقة وتغيرات ثورية كما يصفها، حيث يتحول من مجتمع "مركزية الدولة"، كانت الدولة به مركزية وتسيطر على الاقتصاد الى مجتمع سوق طبقي، ومن مجتمع قومي يتبلور لمجموعة من المجموعات معادية، وهي تعيش بين اقطاب متناقضة من حيث التراتب الطبقي والهويات".
وبحسب "رام فان" الحديث يدور عن: "تغير اساسي في المبنى الاجتماعي لإسرائيل وفي الثقافة السياسية السائدة".
"نتنياهو" يقلب السياسة رأسا على عقب
يمكن اعتبار "نتنياهو" واحد من أبرز الشخصيات, التي أثرت على مسار السياسة الاسرائيلية منذ انتخابه لرئاسة الحكومة بانتخابات مباشرة، ولعل حقيقة انه حقق الفوز على شخصية بحجم "شمعون بيرس" مباشرة بعد حملة تحريض ونزع شرعية تعرض لها اليمين اثر قتل "رابين" تشير الى التغيير الكبير الذي حصل داخل المجتمع الاسرائيلي.
كان صعود "نتنياهو" يبشر بمرحلة جديدة، نهاية عصر النخب القديمة، وصعود القوى الجديدة التي تحمل من التناقضات ما يؤهلها لان تحمل كل شيء، كان "نتنياهو" التعبير الاقوى عن بداية "الأمركة" التي ستعيشها اسرائيل بتعبيرات عنيفة، صعود قوى اقتصاد السوق والخصخصة والانفتاح على العالم، لكنها من جهة اخرى كانت تتصارع مع "القوى المحلية" التي تشد نحو "الصهيونية الجديدة"، التي رأت باتفاقيات "اوسلو" خيانة للخلاص اليهودي، قبل ان ترى به مشروعا سياسيا، في اللحظة التي اعتلى بها "نتنياهو" الحكم كان الصراع بين ما يسمى بالقوى "ما بعد الصهيونية" وبين تلك التي تمثل "الصهيونية الجديدة" في اوجهه، لم يكن مقتل "رابين" بتعبيراته البسيطة الا اشارة لنهاية عصر الاستقطاب الثنائي الذي امتد منذ العام 1977، أنهت رصاصات "يغائيل عمير" المرحلة, ولم يكن اكثر رمزية لهذه اللحظة مثل هزيمة "شمعون بيرس" أمام سياسي جديد هو "بنيامين نتنياهو".
كان "نتنياهو" من جهة اخرى يمثل الاتجاه العالمي الجديد نحو العولمة، التي مثل الاقتصاد والتكنولوجيا الجديدة الاعلامية بشكل خاص احد ابرز سماتها المركزية، وكان لا بد ان يظهر في الوسط الصراع الملتهب بين العولمة والمحلية كما كان يظهر بقوة في العالم، لكنه في الحالة الاسرائيلية كان يتعايش مع صراعات ذات بعد قومي ،فقوة العولمة لا تكمن في أنها تعيد صياغة الدول والكيانات اقتصاديا فحسب بل تتدخل بشكل سافر في صياغة هويتها القومية والثقافية،
انهارت بوطقة الصهر عام 1977 لكنها بعد وصول "نتنياهو" للحكم تحولت الى "طوائف"، وأعادت انتاج الحالة المجتمعية من جديد، وظهرت المحلية لتعبر عن نفسها في ظل غياب هوية اسرائيلية مشتركة تجمع مجتمع من المهاجرين، حتى ان اكثر المسائل اسرائيليا مثل الجيش لم يعد بإمكانه ان يشكل مرجعية لهوية جامعة.
لم يتم اعادة انتاج القبائل والمجموعات من جديد فقط كنتيجة لفشل تشكيل هوية جامعة، وسيرورة اسرائيلية واحدة، بل لان هناك عوامل اخرى غير محلية تدخلت بشكل سافر لفك الشراكة بين المجموعات التي كان من المفروض انها ورغم الخلافات الثقافية بينها تجتمع تحت حد ادنى يمكنها من التعايش، أو على الاقل الادعاء ان هناك "هوية اسرائيلية".
كان قدوم اليهود الروس مع بداية التسعينيات، وتوقيع اتفاقية "اوسلو" عام 1993، واستمرار التغيرات الاقتصادية والاتجاه نحو سياسات السوق والخصخصة والانفتاح العولمي الاعلامي وكذلك القضايا التي بدأت تشكل حالة خلاف علماني - ديني على اساس ايديولوجي، كانت هذه تدفع باتجاه ميلاد حالة مجتمعية جديدة، تقود نحو تشكل مجموعات اجتماعية معادية كما وصفها "رام"، تتشكل على أساس عرقي وديني وايديولوجي وقومي، هكذا تشكلت ست مجموعات او مجتمعات على هذا الاساس والتي كانت نتيجة انتخابات 1996 التي انهارت بها الاحزاب الكبيرة لصالح علو شأن الاحزاب القطاعية والدينية والعرقية، مقابل انهيار الحزبين الكبيرين حزب "العمل" و"الليكود".
واذا كان هناك من يعتبر الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة الاسرائيلية عام 1996 هو سبب اساسي لذلك، أي نتيجة لعدم اهتمام الحزبين الكبيرين بالأصوات مقابل الاهتمام الكبير للحصول على اصوات لمرشحهم لرئاسة الحكومة، واذا كان لهذا الاعتبار وجاهة، فإننا نشير هنا انه لا يمكن ان تتفكك هذه الاحزاب، ولا يمكن ان يرتفع شأن الاحزاب الصغيرة دون ان تكون هناك بيئة مناسبة لذلك.
في الوقت الذي أحال كثيرون لما حدث بعد انتخاب "نتنياهو" عام 1996 للانتخابات المباشرة فقد رأت مجموعة من المراقبين الاسرائيليين ان ما حصل هو أعمق بكثير، وهو يخص البنية الاجتماعية للمجتمع الاسرائيلي، من فوق كان "نتنياهو", ومن تحت كانت "اوسلو" و"اليهود" الروس والمستوطنين والشرقيين والغربيين والمتدينين والعرب، الذين كانوا خارج الاجماع.
مع "نتنياهو" كانت الخلطة الاسرائيلية اقل، كانت "حباد" من جهة حركة دينية خالصة, ما زالت تعتقد انها حاخامها "ميلوفافيتش" ذهب للنوم بعد موته وسيعود من جديد لأنه "المسيح المنتظر"، وكانت ثقافة السوق، والانفتاح والعولمة تطل, "ماكدونالد" من فوقها، مسك "نتنياهو" بكلاهما، أمسك بطرفي نقيض للوهلة الاولى, لكنه في الحقيقة امسك جيدا بحالة التناقض، واحسن استعمالها.
كان النقاش والخلاف مشتعل في كل ناحية اسرائيلية، في السياسة والدين والاقتصاد والطوائف، كلها سوية بدأت تجتمع منذ بداية التسعينات، تتواجه، "جابوتنسكي" وبيرل "كتسنلسون"، العولمة و"الكيبوتس"، المتدينين والعلمانيون، المتدينون الذين يؤمنون بالخلاص وتعجيله, وأولئك الذين ينتظرون قدوم "المسيخ الدجال" على حمار، ومثلهم المستوطنين الذين كانوا يحاربون على شرعيتهم بكل وسيلة ممكنة وأولئك الذين لم يكن الاستيطان بالنسبة لهم اكثر من بيت رخيص قريب من تل ابيب.
اوسلو نقطة التحول
كان "اوسلو" نقطة التحول، فهو وعدا انه كان نقاش ايديولوجي ستصل ذروته بقتل رئيس حكومة في اسرائيل فقد كان يحمل في طياته نقاشا ذا ابعاد اجتماعية واقتصادية، الحقيقة ان الطبقة الوسطى في اسرائيل هي التي حسمت باتجاه "اوسلو"، ثباتها وقوتها ونهوضها هو الذي دفع باتجاه توقيع اوسلو بكونه بالنسبة لهم "ثمرة اقتصادية"، بكونه كما كان مفترض يتيح امكانية عيش افضل، ويوسع امكانيات الاستثمار، وبكونه ايضا يحافظ على مصالح اسرائيل الامنية والسياسية هذا من جهة..
من جهة اخرى كان مشروع "اوسلو" بالنسبة للتيار اليميني والخلاصي منه بشكل خاص الذي مثّله احفاد وانصار الحاخام "كوك" من انصار التيار الديني -الصهيوني، كان خيانة عظمى لرسالة "الخلاص".
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]