هنالك أصول تقوم على المنطق السويّ، تحكم العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد. وأصول مثلها ترسم العلاقات بين الدول والشعوب المختلفة. وكذلك الحال بين الشعوب وحكوماتها. وفي حال حصول كلٍ على حقوقه بجدارةٍ واستحقاق، ويتبوأ كل مسئول مكانه ومنصبه أو حقه بطريقةٍ شرعية،
فان الخلافات المتوقعة بين الأطراف لا بدَّ ستنحصر، وستكون قابلةً للحل بأيسر السبل، إذ أن القوانين والدساتير والأعراف المعنيَّة كفيلة بإيجاد الحلول بالطرق السلمية، وهي إنمَّا لذلك وجدت. والمجتمع السوي والحضاري لا يحتاج إفراده أن يصفِّي بعضهم بعضاً عنفاً وقتلاً، بسبب خلافات على معاملات مالية، أو نفوذ سياسي أو اجتماعي. لان نفس المجتمع يمتلك المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لفض الخلافات بالطرق السلمية. فهنالك الوساطات الشعبية، وهنالك السلطات التنفيذية والقضائية، وهنالك التشريعات والقوانين الكفيلة لحسم القضايا، بعد التحري والإجراءات اللازمة.
مجتمعنا العربي والانفلات الأمني
زادت وتيرة عمليات القتل في الوسط العربي إلى حدٍّ لا يطاق. واتسعت دائرته حتى شملت جميع فئات المجتمع.فأصبح الشاب يقتل وكذلك المرأة، المتزوجة وغير المتزوجة، ويقتل الصبي ومثله المتقدم في السن والشيخ. قتل بين أبناء البلد الواحد أو العائلة الواحدة أو البيت الواحد، وأحيانا خارج هذه الدوائر أو بين بعضها والبعض الآخر.
إن عجز الأجهزة الأمنية وتلكؤها في الوصول إلى القتلة والمجرمين في كثير من حوادث القتل في الوسط العربي، باتت عنصراً مساعداً على تفاقم هذه الظواهر المأساوية، في حين أن هذه الأجهزة تكاد تصل إلى فك رموز أكثر عمليات القتل تعقيداً في الوسط اليهودي، أو فيما يسمى قتلاً على خلفيات قوميَّة. هذا إضافة إلى الانتشار الواسع للسلاح غير المرخَّص في أيدي القتلة والمجرمين، وبين عصابات الإجرام، والحمائل المتناحرة. لعلَّ الدولة اطمأنت إلى أن هذا السلاح لن يوجَّه إلى صدور الجيران اليهود، فتراخت في متابعته حتى فلت منها الزمام. وألان أصبح المجرمون والقتلة يتحركون في بيئةٍ من الانفلات الأمني، والثقة بان يد العدالة لن تطالهم.
إن هذا العنف والقتل دليل على تفكك عُرى المجتمع العربي، الذي بات فيه كلٌ يغني على ليلاه. فالدولة ظلت تنظر بعين الريبة إلى أهل الدين، والمجتمع لا يثق في أن الشرطة والأجهزة القضائية تؤدي واجبها على أكمل وجه.ووجهاء العائلات فقدوا كثيراً من مقومات التوجيه وإدارة أمور عائلاتهم وحمائلهم، ولم يعد الشباب يشركونهم في قراراتهم المصيرية أو يستشيرونهم في حل قضاياهم وفض خلافاتهم.
إنها أزمة بِنيةٍ مجتمعيّة تفقد تماسكها وتتفكك أواصرها في كل يوم. إضافة إلى الضعف المستمر في العملية التربوية، داخل البيوت والأحياء. فلم يعد الجيل يتوارث كل ايجابيات وقيم الجيل الذي سبقه، بل يستورد الكثير من أنماط التعامل الفاسدة من جهات خارجية، كوسائل الإعلام والشِلل سيئة الذكر، والكثير من مخلفات المجتمعات الأخرى التي لا تلائمنا.
الحوار والإقناع قوةٌ وحصانة من العنف
كل حادثة قتل تحدث في مجتمعاتنا لا بد وان لها خلفيات. فقد يكون الخلاف مادياً وصل إلى طريقٍ مسدود. وقد يكون على شبهة علاقات عاطفية، أو تحدٍّ على نفوذ وسلطة وغير ذلك. الطرف القوي بحجته والمقنع برأيه لا يتردد في فتح الحوار حول القضية الخلافية، ويدخل فيها طرفاً ثالثاً أو أكثر.فلعلّ الحوار يفتح نوافذ للحل وخيارات متعددة، مهما بلغت تكلفتها دون سفك الدماء فهي انجع واضمن. واللجوء للتحكيم هو منفذ معتبر أيضا لفضّ الخلافات. فبالإمكان تحكيم بعض أهل الإصلاح، أو الشرع أو القانون أو المهنة وكل وسيلة من هذه الوسائل تمنع إزهاق الأرواح وسفك الدماء ويظلّ لها قيمتها واعتبارها ويجب أن لا نغفلها . وجزى الله خيراً كل من سعى في لم الشمل , أو إصلاح ذات البين ليجنِّب مجتمعنا المزيد من التدهور وإزهاق الأرواح الطاهرة وسفك الدماء الزكية .
وعنف الحكومات ضدَّ شعوبها دليل ضعف كذلك
خرجت دبابات النظام ألبعثي السوري من مخازنها من جديد . بعد أن اُستخدمت سابقا في قمع المحتجين في حماه عام 1982م . عادت من جديد لإرهاب وقمع الشعب الثائر ضد الفساد والظلم وكبت الحريات . واختارت هذه المرة شوارع درعا وأطراف دوما وبانياس وتتأهب لدخول المدن المنتفضة ضد نظام القمع الشمولي الدكتاتوري في سوريا . هذه الدبابات التي ثبت عجزها أمام إسرائيل , واضطرت للانسحاب من لبنان تحت الضغط الدولي , تحاول الآن أن تسجِّل بطولات وعنتريات على الشعب السوري الأعزل, المُطالب بحقِّه في الحرية والكرامة, والديمقراطية واستقلالية القضاء والانفتاح الإعلامي.
مطالب المحتجين السوريين, ومثلهم من قبلهم الليبيين , تتطلَّب فتح أبواب للحوار الوطني. وكأنه ينبغي أن يقابلها النظام, بموضوعية وتعقُّل واحترام لعقول وطروحات هؤلاء المحتجين, ودراسة الممكن وغير الممكن. هذا لو كانت هذه الأنظمة تثق في مصداقيتها , أو لو كانت لها أي وشائج وروابط مع شعبها, غير علاقة الحكم بالحديد والنار .
أما لجوء الأنظمة للعنف والقتل بكل أنواع الأسلحة , وتحويل التعامل مع المظاهرات السلمية إلى حرب, ينزل فيها الجيش إلى الميدان بكل عدتة وعتاده , إنها دلائل على فقدان هذه الأنظمة للشرعية ولأي مصداقية وطنية وقانونية. فالذي يقصف شعبه بالصواريخ والدبابات والمدفعية وسائر الأسلحة كيف سيمثلهم في الأوساط الدولية؟, وكيف له أن يدَّعي حرصه على مصالحهم, ورفع مستوى معيشتهم ؟ كيف له أن يقيم باسم الشعب علاقات مع دول أو حروب مع دول أخرى؟ كيف سيؤتمن على مقدرات الشعب, وعلى سنّ التشريعات التي تحفظ كرامة هذا الشعب.
إن الأنظمة الحضارية لا تصل إلى سدة الحكم إلا عن طريق الانتخاب الحُرّ والإرادة الشعبية النزيهة الصادقة. وحينها تكون الحكومة والرئيس معبرَين عن نبض الشعب وتوجهاته , والشعب سند للحكومة لأنه هو الذي انتخبها , وهي مدينة له في رسم السياسات الداخلية و الخارجية. أما عندما يقتل الرئيس وحكومته ونظامه أبناء شعبهم المطالبين بحقوقهم, فقد نصَّب الرئيس وحكومته ونظامه أنفسهم أعداء لشعبهم, فلم يعودوا يمثِّلون هذا الشعب ولا يؤتمنون على مصالحه. ووجب عليهم أن يرحلوا إلى غير رجعة . فدبابات بشّار الأسد ومدفعية ألقذافي و مرتزقتة هي أدلة على تهافت هذه الأنظمة وهشاشتها وقرب رحيلها , تماما كالمريض المزود بأجهزة التنفس الاصطناعي والتغذية والدم وقياسات الضغط ونبض القلب. كلما زادت الأجهزة زادت الخطورة , وقَرُب الرحيل . فلترحل هذه الأنظمة غير مأسوف عليها إلى مزبلة التاريخ .
والله غالب على أمره
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]