هي نصيحة أقدمها إلى جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، وأخص بالذكر أصحاب الأقلام الذين يكتبون في هذه المواقع أو الذين بنى كل واحد منهم لنفسه صفحة تواصل خاصة به عبر شبكة (الفيسبوك) أو (تويتر)، وأقول لهم سلفًا إن قيمة (حرية التعبير) هي قيمة هامة جدًا، ولا يمكن التنازل عنها ولا يجوز، وأهميتها في إثراء وعينا كأهمية القلب في الجسد، وإذا كان القلب يجدد في الجسد الدماء النقية التي تحفظ الحياة على هذا الجسد، فإن (حرية التعبير) تجدد في وعينا قوة الرؤية وسداد الرأي وصواب الموقف وسلامة الطريق ونجاح المسيرة. ولأن (حرية التعبير) كذلك فهذا يعني أن من البدهي أنه يحق لكل صاحب قلم أن ينتصر لرأيه وموقفه وفكره وقناعاته وقيمه عبر شتى المواقع أو عبر موقعه الخاص به، كما ويحق له أن ينتقد الآخرين، وأن يشير إلى أخطائهم وعثراتهم وسقطات ألسنتهم وأقلامهم ومواقفهم، سيما وأننا مجمعون أن لا أحد فينا يتميز بالعصمة وحده عما سواه، بل الكل فينا خطاء، ولأنه كذلك فقد يخطئ إذا قال أو عمل أو كتب أو أدلى بتصريح أو أعلن عن موقف. وهذا يعني أن الجميع منا خاضع لمبدأ النقد دون استثناء، وقد يُقال له أصبت إذا أصاب، أو قد يُقال له أخطأت إذا أخطأ، ولا حرج في ذلك. ورحم الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله فقوّموني). ورحم الله الفاروق عمر رضي الله عنه عندما قال: (رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي)، فإذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد وضع كل واحد منهما نفسه تحت النقد، فمن نحن حتى يضع أحدنا نفسه فوق النقد؟ والأدهى والأمر: من نحن حتى يجيز أحدنا لنفسه أن ينتقد الجميع، ولا يجيز لأحد أن ينتقده على الإطلاق؟! ألم ينقطع عهد الوحي وما عاد هناك من يُوحى إليه في كل الأرض؟! أليس الواحد منا؛ مهما ملك من العلم الواسع والذكاء اللامع، إلا أنه يبقى في أحسن الأحوال صاحب رأي صواب يقبل الخطأ، ويبقى المخالف له صاحب رأي خطأ يقبل الصواب؟ هذا يعني أن مبدأ الخطأ يبقى لازمًا له طوال حياته، وإن كان صاحب قدرات خارقة لم يتمتع بها غيره من أقرانه ولا ممن سبقوه أو لحقوه. وما أروع الإمام مالك رحمه الله عندما قال وهو يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مخلوق يؤخذ منه ويُرَدّ إلا صاحب هذا القبر)، لأنه الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. فتعالوا بنا يا أقلام مواقع التواصل الاجتماعي نستذكر دائمًا كل ما قلت من بدهيات، ثم تعالوا بنا لنواصل الانتصار دائمًا -بناءً على تلك البدهيات- لحرية التعبير التي سيتمخض عنها لا محالة حرية انتقاد الآخر، وحرية الإشارة إلى أخطائه، وحرية مخالفته، وحرية توجيه رسالة له باسمه الصريح، وحرية لفت الانتباه إلى السلبيات التي قد تنتج عن خطأه الذي قد يكون قولًا أو موقفًا أو مقالة أو رأيًا أو تصريحًا أو نشاطًا أو مبادرة أو لقاء، وحرية دعوته أن يعود عن ذاك الخطأ، وحرية مناقشته والتأكيد له أنه أخطأ إن تمسك بما عنده ودافع عنه وقال هذا ليس بالخطأ، وهذا من حقه، ولكن في المقابل يجب أن يدرك كل أصحاب أقلام التواصل الاجتماعي؛ سواء كانوا من أبناء الحركة الإسلامية أو من أصدقائها أو من المخالفين لها أو من الذين يناصبونها العداء، أنهم هم تحت النقد كذلك، ولا يجوز لهم أن يعيشوا بشعور أنهم فوق النقد، وأنه يحق لهم أن ينتقدوا الجميع ولا يحق لأحد أن ينتقدهم، وأنهم محصنون من النقد لأن ظيفتهم أن ينتقدوا ولا يجوز المس بهم ولو بأدنى نقد كان، كما لا يجوز لهم أن ينزلقوا بذريعة حرية التعبير وحق مبدأ النقد إلى مناصرة جاهلية طائفية أو جاهلية حزبية أو جاهلية حركية أو جاهلية عصبية أو جاهلية حمائلية، أو جاهلية شخصانية. وليحذروا دائمًا حتى لا تنتقل بهم أقلامهم -من حيث يشعرون أو لا يشعرون- من النقد إلى الحقد، ومن التصحيح إلى التجريح، ومن التوجيه إلى التسفيه، ومن حرية التعبير إلى حرية التخوين أو التكفير، ومن الكلمة الكريمة إلى السباب والشتيمة، ومن غاية النصيحة إلى شهوة الفضيحة.
وطمعًا مني بأن تنضبط أقلام مواقع التواصل الاجتماعي انضباطًا راشدًا يجعل منها نعمة علينا لا نقمة، ويجعل من دورها دور بناء لا دور شحناء، ويصوغ منها بوصلة تدل الحائر ولا تزيده حيرة، وترشد التائه ولا تزيده تيهًا، وتأخذ بيد العاثر ولا تدوس عليه، وطمعًا مني بأن تعيد هذه الأقلام النظر في نفسها ودورها وخطابها وتعزز ما في مسيرتها من أدب النقد، وتنقي هذه المسيرة من أية شائبة؛ سواء كانت في أسلوب هذه النقد ومظهره أم في لبابه وجوهره، طمعًا مني بكل ذلك فإني أتقدم إلى كل صاحب قلم من هذه الأقلام بهذه النصائح:
1. تذكر قبل أن تبادر إلى نقد الآخرين بهدف تصحيحهم فإن الأولى لك وأولى أن تبدأ بنفسك وأن تنتقدها بهدف تصحيحها، ولا تغادرها إلى غيرها وهي لا تزال أمّارة بالسوء تتفلت عليك، وتزين لك الباطل كأنه حق، والمنكر كأنه معروف، والخيانة كأنها أمانة، والرجعية كأنها تقدمية، والتميع كأنه سياسية، والاذدناب كأنه كياسة، والتلون كأنه دهاء، والانبطاح كأنه مرونة، والتنازل كأنه مناورة، والتبعية كأنها شراكة. وما أحراك أن تتذكر أنه لا يقود الناس أعمى بل يقود الناس بصير، فلا ترض لنفسك أن تنتقل إلى غيرك ناقدًا وقد بقي فيك الكثير الذي يحتاج إلى النقد فورًا. ومع ذلك إن أبيت إلا أن تنتقل إلى غيرك، فعلى الأقل تواضع عندما تنتقد، وتجنب كل لفظ فظ وكل أسلوب غمز ولمز، واحذر ثم احذر التطاول على غيرك. وما أجمل أن تقف متدبرًا قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وصدق من قال: (ميدانك الأول هو ميدان النفس، فإن قدرت على إصلاحها كنت على إصلاح غيرها أقدر).
2. تذكر أن قلمك يقوم مقام لسانك. وكما أنك مطالب أن تمسك عليك لسانك، فأنت مطالب أن تمسك عليك قلمك. وكما أنك مطالب ألا تجرح الأشخاص والهيئات بلسانك، فأنت مطالب بذلك بقلمك. وما أجمل أن تحصن قلمك النائب عن لسانك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)، وهذا يعني أنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتب خيرًا أو ليصمت.
3. إذا ظننت أنه أسيء إليك أو إلى من تحب، فهناك الصفح، وإلا فهناك النصيحة، وإلا فهناك أدب المعاتبة، وإلا فهناك أدب المصارحة، لذلك تجنب فحش القول أو فحش الأسلوب أو فحش المعنى، ولا يوجد لك عذر في كل ذلك.
4. ابتغِ الإصلاح ما استطعت من وراء ما تكتب بقلمك، وليكن ما يخيفك هو أن تنسى نفسك وأنت تكتب قبل أن تخاف أن ينسى نصيحتك من كتبتها له، واعلم أنك مطالب أن تقنعه كي يرتدع عن لغوه، فاحذر أن تقسو في نصيحتك له حتى لا يفجر في لغوه.
5. اعلم أن كسب القلوب أولى من كسب المواقف، ولذلك إن فشلت في تغيير ما في موقف فلان من لغو فلا تخسر قلبه، وإن فشلت أن تربحه كصديق فلا تُحوّله إلى عدو، وإن أصَرَّ أن يظل حياديًا فلا تدفعه حتى يصبح خصمًا، وإن تمسك بدور الرافض لك فلا تدفعه حتى ينقلب مؤذيًا لك، وكل ذلك منوط بحركة قلمك، فاضبط حركة قلمك جيدًا.
6. احذر أن يستدرجك قلمك فتتحول من مدافع عن فكرة إلى مدافع عن شخصه، ومن مناصر لموقف إلى مناصر لذاته، وإياك إياك أن يفتنك قلمك وأن يوصلك، وأنت لا تدري، إلى عالم الفضوليين الذين يكثر لغطهم وينشط قلمهم وتكثر تغريداتهم ويقلّ عملهم.
7. احرص أن تكون صاحب قلم كبير، وإن من مواصفات صاحب القلم الكبير أن يهون عليه العفو الدائم والواسع عن الآخرين في الحقوق الشخصية، فإن سابّك أحد أو شاتمك بقلمه فاعلم أنه صاحب قلم صغير، فقل له: أنا صاحب قلم كبير.
8. احذر أن يغرس فيك قلمك الجرأة على قول "أنا"، وإلا إذا نجح بذلك واستحكمت فيك، فستقدم نصر الأنا بقلمك على نصر الفكرة الحق والموقف الحق والسلوك الحق، وسيسهل عليك فيما بعد التطاول على الآخرين واصطناع الأعذار الوهمية.
9. اعلم أنك إن أحسنت الإمساك بالقلم، وإن أحسنت قيادة حركته، فأنت ستحسن البناء الاجتماعي بهذا القلم، وإلا فاحذر أن يتحول قلمك إلى أداة نخر باطني، فعندها سينهار البناء الذي تريد ترميمه، وسينهار طموحك ثم سينهار دورك بعد ذلك.
10. اجعل قلمك قويًا، وحتى يكون قويًا يجب أن يدافع عن مبادئ وأن يقدم ذلك على دفاعه عن رجال، وإلا إن قدّم دفاعه عن رجال على دفاعه عن مبادئ، فاقرأ على قلمك وموقعك الفاتحة، بل اقرأ عليه الخاتمة.
11. تمسك بقول فقهاء الدعوة: (ليكن أمرك بالمعروف معروفا، ونهيك عن المنكر غير منكر)، ولذلك لا يكفي أن تقول إن مدلول ما كتب قلمي قائم على الحق، بل يجب أن تكون الألفاظ التي كتبها قلمك قائمة على الحق، وكذلك الأسلوب واختيار الزمان المناسب والحال المناسب.
12. حتى لا يدفعك قلمك إلى فساد في الأرض، من حيث لا تعلم، إياك أن تكون ساكتًا عن الحق، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولكن لا تغفل عن هذه الحكمة الرائعة التي قالها الإمام الشافعي رحمه الله: (من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه).
13. وأخيرًا أسأل الله تعالى لي ولك التوفيق، ولا تنسني من نقدك ونصيحتك ودعائك.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]