في هذه لأيام التي نرى فيها ونشاهد تصدر اللون الأحمر لواجهات المحلات التجارية، على اختلاف تخصصها والسلع والبضاعة التي تعرضها، فإنها تفاهة وسطحية المحتفلين بما يُسمى "عيد الحب" و"عيد العشاق" بل عيد الراهب والقديس "فالنتين" الذي أُعدم وسال دمه الأحمر يوم 14/2/270م بسبب اكتشاف الإمبراطور الروماني كلوديوس الثاني عن علاقة غرام وقعت بين القديس وبين ابنته خلال وجوده في السجن، حيث كان حكم عليه بسبب تحريره عقود زواج للجنود الذين منعهم الإمبراطور من الزواج ليظلوا منشغلين في الحروب التي يخوضها.
إنهم إذن أبناؤنا وبناتنا، شباننا وشاباتنا، بل رجالنا ونساؤنا؛ سواءً كانوا أصحاب الحوانيت أو كانوا هم المستهلكين فإنهم قد انجرفوا خلف تلك التفاهة، وقد اختزلوا معاني الحب الحقيقية في سلعة حمراء عرفت الشركات التجارية وأصحاب المال بواسطتها كيف يستخرجون نقودنا من جيوبنا بشكل مجنون وغير معقول أبدًا.
لقد تحول هذا اليوم إلى هستيريا حمراء؛ الورود الحمراء، الملابس الحمراء، الأحذية الحمراء، الألعاب الحمراء، البطاقات الحمراء، ولا تغلف الهدايا إلا بالأحمر، وواجهات المحلات الحمراء؛ إنه الحب الميت والجاف، وإذ بالحياة تدب فيه ليوم واحد اسمه يوم الكذبة الكبرى والزيف الكبير، حتى أن من النساء من تعتبر هذا اليوم هو يوم الامتحان الحقيقي لزوجها، فإن حظيت منه بهدية حمراء فإنه الحب، وإلا فإنه لعله يحب غيرها، والويل ثم الويل إن لم تحظ بهدية حمراء.
وفي الوقت الذي ينشغل فيه قطاعٌ من أبناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية بعيد الحب، واحتفاءً بذكرى دم القديس "فالنتين" الأحمر، "مع تأكيدي أن الكثيرين لا يعرفون خلفية وتاريخ هذا اليوم وأنه أسطورة رومانية أخذت لها بعدًا دينيًا بعد دخول الرومان النصرانية"، نعم في الوقت الذي تنشغل فيه بناتنا ونساؤنا بالعيد الأحمر والحب الأحمر، فإنه الدم الأحمر، لكنه ليس دم القديس "فالنتين"، وإنما هو دم الشهداء الأحمر يسيل من الأطفال والنساء والشيوخ في شوارع مصر والعراق وسوريا وفي غزة والقدس، وفي مواقع كثيرة من أرجاء الوطن العربي والإسلامي.
وإذا كانت بعض الفتيات والنساء في ضعف انتماء وضحالة فكر وسطحية سلوك يخطف بصرها وعقلها اللون الأحمر على شكل وردة أو بطاقة أو هدية، فإن قطاعًا واسعًا -والحمد لله- من بناتنا مَن الأحمر عندهن هو العطر وهو الحناء من دماء أبنائهن وأزواجهن وإخوانهن، الذين يقتلون دفاعًا عن الحرية، وعن الأوطان، وعن الكرامة في غزة ومصر وسوريا، إنه اللون الأحمر الحقيقي وليس الأحمر المزيف.
إنهن أخوات ميسون الدمشقية ليست التي تواجه طغيان بشار الأسد ودمويته، ولكنها ميسون الدمشقية خلال نزول جيش الصليبيين. ففي حملاتهم واحتلالهم بلاد المسلمين والقدس والأقصى وقد خرج إخوتها الأربعة إلى الجهاد، وبينما هي بقيت وحيدة في البيت لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى إخوتها، وإذا به خبر نعيهم جميعًا في ساحات الجهاد.
إنها ميسون الدمشقية تأتيها الفكرة، وهي تعيش ألم فقدان الإخوة.. إنه شعرها الناعم سلاحها الشاكي، لقد نادت جاراتها ليس ليواسينها ولكن ولتقوم أمامهم وتقول "إننا لم نخلق رجالًا نحمل السيوف ونركب الخيول، ولكننا إذا قتل الشباب أو جبن البعض منهم فقعدوا في البيوت قعود النساء، فإننا نحن نقدم أثمن وأعز وأغلى ما تقدم المرأة إنه شعرها"، وأخذت المقص وجزَّت شعرها وقالت إني سأجعل منه لجامًا لفرس فارس يقاتل في سبيل الله. وفعلت النساء مثلها وأرسلن ضفائر شعرهن إلى خطيب المسجد الأموي الذي وقف على المنبر يستنفر الرجال القاعدين موبخًا: (أيها الناس، إنه قد دارت رحى الحرب ونادى منادي الجهاد وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فافسحوا الطريق للنساء يُدِرن رحاها، وأما أنتم فخذوا المجامر والمكاحل يا نساء بعمائم ولحى، وإلا فإلى الخيول وهاكم لُجمها، يا ناس أتدرون ممَّ صُنِعَتْ هذه اللجم -وقد ألقاها بين أيديهم بعد إذ لوَّح بها على المنبر- إنها قد صنعتها النساء من شعورهن، يا ناس يا رجال، العربي ينصر العربي، والمسلم ينصر المسلم، والإنسان ينصر الإنسان، فمن لم يهب لنصرة فلسطين فليس عربيًا ولا مسلمًا ولا إنسانًا، يا رجال هذه والله ضفائر النساء التي لم تكن تبصرها الشمس صونًا وحفظا، قد قصصنها وجززنها لأن تاريخ الحب عندهن قد انتهى، يا رجال إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور)، وكانت هذه الخطبة التي صاغ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مضامينها بقلمه الأدبي المميز في كتابه "قصص من التاريخ".
إنها ليست قصة ميسون الدمشقية قبل ألف عام، وإنما هي قصة ميسون السورية في دمشق وحلب وحمص ودرعا وإدلب، إنها بنت الشام التي خرجت للتظاهر ولمسيرات الغضب ضد بشار الدموي وحزبه وشبيحته، إنها بنت سوريا التي تعتقل والتي هدم بيتها والتي قتل زوجها أو أبناؤها، إنها التي اغتصبت والتي هُجرت، إنها اللاجئة المشردة تبيت في العراء أو في الخيمة أو التي لا تعرف مصير أهلها وأحبتها.
ها هي الفتاة السورية والمرأة السورية اليوم تقدم أروع الأمثلة في الصمود، وهي التي تتلفع بالأحمر، ليس أحمر الشفاه ولا وردة ولا بطاقة ولا ثوبًا، وإنما هو الدم القاني يسيل من ابنها أو زوجها أو شقيقها. إنها التي ما عادت تعرف الحب المزيف ولا "الحب الفالنتيني"، فتاريخ هذا الحب قد انتهى، وإنما هو حب العطاء والبذل والجهاد دفاعًا ونصرة لوطنها وبلدها ودينها.
ومثلما أن تاريخ الحب قد انتهى عند المرأة السورية فإنها المرأة المصرية كذلك قد انتهى عندها تاريخ الحب، لا "الحب الفالنتيني" ولا حب الممثلين والممثلات في أفلام الغواية والإغراء تعرضها فضائيات الفساد والعار.. إنها المرأة المصرية التي نامت في ميدان التحرير مع زوجها وأخيها خلال مظاهرات ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بحكم حسني مبارك ونظامه، وإنها المرأة المصرية قد بقيت قريبًا من خمسين يومًا بعد انقلاب 2013/7/3 وأمضت كل رمضان وأيام العيد تنام في الخيمة تصنع الطعام وكعك العيد وتصلي وتهتف وتدعو دعمًا للشرعية وضد الانقلاب.
لقد رأينا الفتاة المصرية المؤمنة المحجبة وقد أعلنت وصرخت "انتهى عهد الحب" ولم يبق إلا حب الله ورسوله ودعوته والوطن، فأصرت أن يكون إعلان خطوبتها ليس إلا على منصة اعتصام رابعة، وألا يكون الزواج إلا بعد فشل الانقلاب وسقوطه وعودة الشرعية.
ولقد رأينا الشهيدات الطاهرات بنات القادة والمسؤولين في جماعة الإخوان المسلمين ممن قتلهن زبانية السيسي خلال فض اعتصام رابعة فجر الأربعاء الأسود 2013/8/14؛ إنها أسماء بنت الدكتور محمد البلتاجي، وإنها حفصة بنت المهندس خيرت الشاطر، وإنها حبيبة بنت الدكتور أحمد عبد العزيز، مستشار الرئيس محمد مرسي، إنهن الفتيات الطاهرات لسان حال الواحدة منهن تقول: (انتهى تاريخ الحب) فلا حب بعد اليوم إلا لله ولرسوله ولكتابه ولدعوته وللوطن.
إنهن نساء مصر الطاهرات العفيفات ومنذ انقلاب يوم 2013/7/3 وإلى يومنا هذا؛ أي قريبًا من سنة ونصف السنة، يخرجن كل يوم صباحًا ومساءً في مسيرات حاشدة يملأن الشوارع رفضًا للانقلاب ودعمًا للشرعية وحق الشعب في اختيار من يرأسه ويقوده، وإنهن بصبرهن وجهادهن وإصرارهن على الخروج ولسان حالهن يقول: (لأن تاريخ الحب قد انتهى)، وإن نتائج هذا الدور المبارك قد بدأت تلوح بقرب سقوط هذا الانقلاب وكل رموزه من الخائنين والقتلة. يقول المؤرخ المصري الدكتور محمد الجوادي: "لقد كنت خائفًا على الثورة المصرية، خاصة بعد الانقلاب الدموي، ولكنني وبعدما ما رأيت المشاركة الفاعلة للمرأة المصرية والدور البارز المهم الذي تمارسه الدائرة النسائية في جماعة الإخوان المسلمين؛ فإنني الآن مطمئن إلى أنه لا خوف على الثورة وأن الانقلاب حتمًا سيفشل".
وإذا كانت الكاتبة الشيوعية المعتوهة نوال السعداوي، وهي العلمانية الحاقدة على الدين والوطن، وإن ادعت أنها اليسارية الوطنية، هي التي نادت بأن يكون للمرأة المصرية دور في نهضة مصر عبر ما سمته "السياحة الجنسية" (تقصد جذب السُياح إلى مصر عبر تشريع الزنا وجذب النساء المصريات للسُياح الأجانب)، فإذا كان هذا موقف العجوز الشمطاء نوال السعداوي فإنهن الصبايا المحجبات في مقتبل العمر من أمثال "فتيات سبعة الصبح" اللاتي كن يخرجن منذ السابعة صباحًا إلى الشوارع للتظاهر ضد السيسي في مدينة الإسكندرية فاعتقلن وضربن، ومع ذلك فقد بقي الإصرار ولسان حالهن يقول: (لأن تاريخ الحب قد انتهى).
وإذا كانت الإحصاءات الرسمية تقول إن النساء في دول الخليج الداعمة للانقلاب ينفقن 11 مليارا، نعم أحد عشر مليار دولار على وسائل الزينة والمكياج سنويًا، فإنها المرأة المصرية البطلة تتمكيج بالدموع وتتحنى بالدم دفاعًا عن دعوتها ودينها ووطنها، إنها التي ليست على مذهب فيفي عبده ولا إلهام شاهين ولا لميس الحديدي، ولكنها على مذهب نجلاء مرسي، زوجة الرئيس محمد مرسي، وعلى مذهب زينب الغزالي وزوجة الدكتور محمد البلتاجي ممن اعتقل زوجها وابنها وقتلت ابنتها أسماء، وأهينت على بوابة السجن ونزع حجابها لما ذهبت لزيارة ابنها أنس وزوجها، ومع ذلك صبرت واحتسبت ولسان حالها يقول: (لأن تاريخ الحب قد انتهى).
إن الفتاة والمرأة المصرية يكفيها شرفًا وعزًا أنها اليوم تكتب تاريخا مصريا من جديد، إنه التاريخ الذي لا تكتبه رقاصة ولا ممثلة ولا مذيعة سليطة اللسان؛ تزيد أجرتها ببذاءة لسانها وتطاولها على الشرفاء والشريفات، نعم! إنه تاريخ مصر الذي تكتبه زوجة شهيد أو أم شهيد، إنها التي بدم ابنها أو زوجها تلون لوحة المستقبل الزاهر لكل المصريين بل لكل العرب وكل المسلمين ولسان حالها يقول: (لأن تاريخ الحب قد انتهى)، على غير وبعكس ما تفعله جموع البلطجيات من اليساريات والرقاصات والممثلات اللاتي يردن لمصر أن تكون وكرًا للفساد ومرتعًا للمارقين.
ومثل المرأة السورية والمرأة المصرية، وكذلك المرأة اليمنية، فإنها المرأة الفلسطينية البطلة المجاهدة الصابرة، التي أنجبت وربت هذا الجيل الفلسطيني الذي تمرد على الخوف وعلى الجبن؛ إنه الجيل الذي رضع من أمه حليب الصمود والثورة والجهاد والمقاومة، إنه جيل الشباب الفلسطيني الذي خاض انتفاضتين وخاض ثلاثة حروب على غزة، وإذا به يفاجئ الدنيا ببطولات أبهرت القاصي والداني، وما كان هذا لولا أم بطلة وزوجة داعمة وأخت متباهية.
إنها المرأة الفلسطينية في غزة من بين الخيام، ومن تحت الركام، ومن وسط الآلام تخرج وتربي جيلًا من الشباب الفلسطيني صاحب العزيمة الجبارة والإرادة التي لا تقهر بإذن الله، وإنها المرأة الفلسطينية والفتاة الفلسطينية في القدس الشريف وفي الداخل الفلسطيني المرابطة هناك عند بوابات المسجد الأقصى مثل اللبؤة تدافع عن عرينها.
إنها التي تُمنع وتُعتقل وتُضرب وتُساق إلى المحاكم، بل وإلى المعتقلات، ويصدر في حقها أوامر الإبعاد عن المسجد الأقصى، فما أن تنتهي مدة إبعادها حتى تعود يملأها الإصرار على الرباط في ساحات المسجد الأقصى وعند بواباته، إنها التي أصبحت اليوم مفخرة نساء الأمة جميعًا والمثل والقدوة التي لا يتصدره غيرها، إنها الفتاة الفلسطينية تعالت وترفعت عن سفاهات وتفاهات عيد الحب والوردة الحمراء والحذاء الأحمر والحقيبة الحمراء والهدية الحمراء، إنها التي اختارت وأصرت ألا يكون عقد قرانها إلا هناك في ساحات المسجد الأقصى، بل عند محرابه، لأنه عندها قد انتهى تاريخ الحب الزائف؛ حب الغرائز والشهوات والانفلات والميوعة وبدأ مشروع الحب الحقيقي، إنه حب الله ورسوله والوطن والقدس والأقصى وحب أن تبني بيتًا من زواج مبارك ينتج جيلًا هو جيل الفتح والنصر والتحرير بإذن الله تعالى.
نعم! إنها المرأة المسلمة اليوم في مصر وفي سوريا وفي فلسطين وفي اليمن وفي كل بلاد الإسلام، إنها المرأة المسلمة التي عرفت طريقها واعتزت بهويتها وتباهت بحجابها، إنها التي كفرت بفكر الغرب وزيف شعاراته ورفضت أن تقتدي بالتفاهات من رافعات شعارات الغرب المسمومة.
إنها المرأة المسلمة اليوم تحمل لواء الثورة، بل ترفع راية الصمود، بل تدفع ابنها وزوجها للمقاومة والجهاد؛ هذه المرأة وهذه الفتاة هي التي تكتب تاريخ الأمة من جديد، إنها التي لسان حالها يقول: لا عيد "فالنتين"، ولا عيد الأمم المتحدة "يوم المرأة العالمي"، ولا الجمعيات النسائية المسمنة والمتخمة بالأموال المشبوهة، ولا بعض الأسماء النسائية الفاقعة الممسوخة الفكر والشكل من أثر تقليدها وتفاخرها بالفكر الدخيل الغريب، فلا هذه ولا هؤلاء عادوا اليوم يوجهون بوصلة المرأة المسلمة.
إنها التي عرفت طريقها وعرفت هدفها وعرفت غايتها، إنها التي أرادت الدنيا طريقًا إلى الآخرة، وأرادت بل وسخرت كل إمكاناتها لعزة دينها وأمتها، إنها التي صرخت وقالت: "إن تاريخ الحب قد انتهى"، وإن تاريخ المجد والنصر والعزة قد ابتدأ.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]