ومع قناعتي بما أكتب، ومع رغبتي في أن تصل رسالتي، إلا أنني في الوقت نفسه لا أحب الإساءة إلى شخصٍ بعينه، ولا المساس بمشاعر أحدٍ أيًا كان. ولأنني لا أقصد شخصًا بعينه لذلك فقد انتظرت لمثل هذه الأيام التي تكاد تخلو من المناسبات الاجتماعية إلا نادرًا حتى لا تكون رسالتي هذه قريبة من مناسبة فلان أو علان، وإنما هي رسالتي لأهلنا وأبناء شعبنا الذين تتأصل فيهم بعض العادات والسلوكيات السلبية، والتي يُثقل فيها بعضهم على بعض.
إنك إذا جالست البعض فإنك تسمعه يتأفف ويتذمر من كثرة هذه المناسبات ومن المتطلبات التي باتت ترهق كاهله، ولكنه يعود ليستجيب لها وينسجم معها وفقًا لمقتضيات الواقع، الذي يصبح أقوى منه ولا يستطيع معاكسته أو الخروج عنه، لا بل لعل هذا المتأفف والمتذمر يصبح جزءًا من هذا الواقع فيفعل الذي كان يتذمر منه.
كابوس الأعراس:
ومع كون موسم الأعراس قد أصبح كابوسًا ثقيلًا يستمر لما يزيد عن ثمانية أشهر في السنة، يعيش فيها الناس وضعًا اجتماعيًا مثقلًا بالهموم الاجتماعية والاقتصادية التي تترتب على الدعوات الكثيرة، التي تصل إلى كل واحد منا، والتي تثقل كاهلهُ، بخاصة أن موسم الأعراس يتزامن مع شهر رمضان وما فيه من نفقات إضافية، ومع بداية الموسم الدراسي وافتتاح المدارس وما فيه كذلك من نفقات إضافية، وإن كانت ضرورية.
ومع أننا ومنذ سنوات نعيش ويعيش شعبنا همومًا كثيرة وأحزانا متواصلة بما يقع في غزة وفي القدس والأقصى، فلئن كان الجرح الفلسطيني هو الذي يبكينا ويؤلمنا فلقد أضيف إليه الهمّ المصري والهمّ السوري والهمّ العراقي والهمّ اليمني والهمّ الليبي. ولعل الأشهر القريبة جدًا ستجعلنا نعيش ظروفًا محزنة وأليمة بما لا يقارن أبدًا بالظروف التي مرت بنا. إنه لا أصعب ولا أسوأ من أن نعيش على واقع المجازر والدماء والأشلاء وتنقلها إلينا وسائل الإعلام وبالبث المباشر، بينما نحن مضطرون إلى مجاملة صاحب مناسبة يظل مكابرًا ولا يفكر أبدًا في اختصار مناسبته رغم هول الحدث وعظم المصيبة. ولقد رأينا وسمعنا الأفراح والليالي الملاح في شهر آب الأخير من العام 2014 بينما القنابل والصواريخ تحرق وتقتل أهلنا في غزة، دون أن يرف لنا جفن أو تدمع لنا عين، ففي قرانا أعراس ومفرقعات، وفي غزة أحزان ومجازر وأشلاء وصواريخ وقنابل!!! وعليه فإنني أنصح أهلنا وأبناء شعبنا بأن نخفف عن بعضنا البعض، وأن نذهب في اتجاه التواضع في مناسباتنا قدر المستطاع ومحاولة الاقتصار على الأقارب والدائرة الصغيرة من الأصدقاء.
كابوس المآتم:
مع أنها سُنة مباركة وعادة اجتماعية أصيلة؛ وهي صنع الطعام لأهل الميت والتي حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لأصحابه: (اصنعوا لآل جعفر طعامًا فإن عندهم اليوم ما يشغلهم)، نعم! إنه لا أعظم من أن نواسي بعضنا البعض عبر المبادرة لصنع الطعام لأهل الميت، الذين يشغلهم فقدان عزيزهم عن صنع الطعام لأنفسهم ولأولادهم، وهذه الوليمة تسمى "الوضيمة".
فكم هي مباركة المسارعة لاستضافة أهل المتوفى. فكما أنت اليوم تدعو فإنك غدًا ستُدعى، ومثلما مات قريب غيرك فغدًا سيموت قريبك وهكذا، لكن الذي أحب الإشارة إليه بضرورة المراجعة والتصويب، إنها في حالات كثيرة تجد الأقارب من الدرجة الرابعة أو الخامسة يتوافدون إلى مكان الدعوة (مع علمي أن هذا يكون بإلحاح أصحاب الدعوة) ليكون عددهم بالعشرات الكثيرة، ويكون مثلهم من أقارب صاحب الدعوة، وإذا بها وليمة كبيرة وتكلفتها كثيرة قد تتجاوز السبعة آلاف بل العشرة آلاف شيكل، وهذا ولا شك حملٌ ثقيل.
إن من نتائج هذا وثقل تكاليف الدعوة أن الفقراء وأصحاب الدخل المحدود سيترددون في دعوة جيرانهم إذا مات عزيزٌ لهم، وإن فعلوها فإنهم سيعيشون حالة اختلال في ميزانية البيت قد تستمر شهرين على الأقل، أو أن من سينالون شرف هذه السُنة المباركة والعادة الأصلية هم الأغنياء والموسرون فقط.
وعليه، ومع تأكيدي على اعتزازنا بأهلنا وأبناء شعبنا وضرورة المحافظة على هذه السُنة المباركة، فإنني أدعو إلى تقليص أعداد الحاضرين ليكونوا من الأهل الأكثر قربًا من الميت، حتى يستطيع كل جار أن يحظى ببركة استضافة جيرانه وتطبيق السُنة المباركة، وإلا فلا بأس بالمشاركة والمساهمة في تكاليف هذه المناسبة بين أقارب الداعي بعضهم مع بعض.
ومما هو مقترنٌ بسلوكياتنا في الجنازات أننا بدأنا نسمع من إذا مات رجلٌ فإنهم يتقبلون دعوة الداعي إلى طعام مدة ثلاثة أيام -هي أيام الحداد والعزاء- بينما إذا كانت المتوفاة امرأة؛ سواءً كانت زوجة أو أمًا أو أختًا أو غير ذلك فإنهم لا يقبلون دعوة الطعام إلا في يوم الجنازة فقط، بينما تعود قريبات المتوفاة لصنع الطعام لأهل البيت مع ما هُنَّ عليه من حزن وألم، ولعلهن أخواتها أو بناتها. فمن أين هذا الدين يا هؤلاء؟ ومن له الحق أن يفرق بين السُنة للرجال أو النساء أو الحزن على الرجال أو النساء؟ إنها والله جاهلية ومكابرة وليست من الدين ولا الأخلاق في شيء، رحم الله موتانا رجالًا ونساءً.
مناسبات حلوة ولكنها أيضًا كوابيس؟!!
وليس أن إثقالنا على بعضنا البعض يقتصر على الأعراس وكثرتها أو الجنازات وتطبيق سُنة طعام المواساة وما فيها من تكاليف، إلا أنها عادات وسلوكيات بدأت تشيع فيما بيننا؛ ظاهرها جميل لكن شوائب كثيرة راحت تلازمها لتخرجها بعيدًا عن غايتها بل لتشوهها. وخشية من أن تترسخ هذه السلوكيات والشوائب فإنني أحببت الإشارة إليها من البداية سعيًا للتخلص منها وعدم محاكاة بعضنا البعض فيها، وعندها ستصبح سلوكًا اجتماعيًا يصعب الخلاص منه.
إنهم أناسٌ من أبناء شعبنا يكرمهم الله سبحانه ببناء بيت جديد، وهي ولا شك مناسبة مباركة وفرحة؛ وأي فرحة أنه وبعد جهد السنين والسكن في بيت قديم أو ضيق أو مستأجر، وإذا به ينتقل للسكن في بيت جديد بناه من كده وتعبه هو وزوجته وأولاده، ولأجل ذلك وفرحًا بهذه المناسبة فإنه يقيم وليمة يدعو إليها الأقارب والأصدقاء والجيران ليشاركوه فرحته، وهي التي تسمى (الوكيرة)، اللافت أن بعض هؤلاء الإخوة وخلال استقبالهم لضيوفهم فإنهم يتقبلون المباركات المالية يضعونها في جيوبهم أو في كيس يحمله أحد الأقارب يقف إلى جانبهم. إنني وخشية من أن يُفهم كلامي في غير الذي أردت فإنني لا أعاكس وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا)، ولكن الوضع في هذه الحالة يصبح فيه نوع من الإلزام المخجل والمحرج، فإذا كان صاحب البيت قد أنفق مئات ألوف الشواقل لبناء بيت، ولعله يزيد على المليون وأكثر، ويريد أن يفرح بإنهائه فلعل من المدعوين من هو مثقلٌ بالهموم المادية ما يجعل همه يزيد، أو أنه يضطر لعدم تلبية الدعوة. فأرجوك يا صاحب البيت الجديد المبارك، فإما أن تدعو من تحب لمشاركتك دون تكليف، وإن كنت غير قادرٍ على تكاليف هذه الوليمة فهي ليست فرضًا ملزمًا حتى تضطر لتقبل الهدايا المالية.
ومثل وليمة بناء البيت الجديد فإنها الولائم التي تقام بمناسبة المولود الجديد المعروفة بالسُنة المباركة بـِ(العقيقة) حيث يولم أهلنا عندما يرزقهم الله بولد أو بنت. ومع اعتزازنا ومباركتنا لتطبيق السُنة الشريفة إلا أننا بتنا نلاحظ أن أصحاب الدعوة كذلك يقفون عند مدخل استقبال ضيوفهم ليتلقوا المباركات المالية. يا أخي بالله عليك! أنت فرحٌ بأن رزقك الله الولد أو البنت وتريد أن تفرح بأقاربك وجيرانك وأصدقائك يكونون معك، فلماذا ترهق كاهلهم؟ إن العقيقة سُنة ويُصبح النقوط فيها فرضا. فكيف يكون ذلك؟ ومع أن السُنة المباركة تشير إلى استحباب دعوة الفقراء إلى هذه الوليمة فماذا يفعل الفقير إذا دعي؟! وإلا فإنها ستصبح دعوة الأغنياء فقط، وهذا مخالف كذلك للسُنة الشريفة!!!
ومثل وليمة البيت الجديد والولد الجديد فإنها الولائم التي راحت تنتشر وتكثر في مجتمعنا في الداخل الفلسطيني عند تخرج الأبناء من دراسة الطب أو المحاماة أو غيرها. نعم إنها فرحة وأية فرحة أن يكرم الله عز وجل أحد الأهل بتخرج ابنه بعد سنوات ذات عدد من الدراسة والغربة، وإذا به يعود طبيبًا أو غير ذلك، ويحتفل الأهل بإقامة وليمة يدعى إليها الأصدقاء والأقارب والجيران، ولا بأس في ذلك لمن استطاع، لكن ما يحصل وما راح يتأصل هو التقليد، إذ لعل البعض وبحق فإنه قد استطاع تعليم ولده بشق الأنفس، ولعله يكون مدينًا، ولكنه يجد نفسه مضطرًا لمجاراة غيره مراعاة لمشاعر ابنه. والأنكى من ذلك أن البعض ممن يقيمون هذه الولائم فإنهم كذلك يقفون عند استقبال ضيوفهم يتقبلون منهم الهدايا المالية. يا أخي! أنت فرحان بتخرج ابنك، ومن تدعوهم فرحون لفرحك، ولكن فإما أن تكون مقتدرًا ماليًا فادعُهم بلا تكليف، لأن هموم الناس كبيرة والتزاماتهم كثيرة. وإن كنت غير قادر فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ومما زاد الطين بلة أننا بدأنا نسمع عن أهالي يقيمون احتفالات في قاعات الأفراح بمناسبة نجاح أبنائهم في نيل شهادة التوجيهي (البجروت) أو عند الحصول على علامة مميزة في امتحان البسيخومتري، ويدعون إليها الأصدقاء والأقارب والجيران، وكذلك فإنهم يقفون لتلقي الهدايا المالية من ضيوفهم. بربكم أيها الناس! أليس هذا مما لا يقبله منطق ولا عقل ولا دين؟ أنت يا أخي فرحان بنجاح ابنك أو ابنتك وتريد أن يشاركك أهلك وأصدقاؤك ذلك الفرح، فلماذا تلزمهم "بالعافية" مشاركتك في المصاريف عبر تقديم (النقوط) لمناسبة لا هي فرض ولا سُنة ولا هي حتى من مألوف الناس؟
إنني لا أعترض وليس لي ما أقوله، بل ولعلي أبارك التزاور الاجتماعي والتهادي؛ سواءً كان بمناسبة البيت الجديد أو الزواج أو المولود الجديد أو تخرج الأبناء لمن كانت تربطهم علاقات اجتماعية أو صداقات، ويكون هذا لمن شاء، ولكن وضع الناس في مواقف محرجة حيث لا خيار عندها إلا بالهدايا المالية، فإن هذا مما بات يشكل حرجًا وثقلًا على كاهل الناس في ظل كثرة هذه المناسبات، وبالموازاة مع كثرة الهموم والالتزامات.
كثير هيك يا ناس
إننا نظلم أنفسنا ونحمل بعضنا البعض فوق طاقتنا عبر تكريس أنماط وسلوكيات وممارسات ما أنزل الله بها من سلطان.
وإن من يتابع صحف نهاية الأسبوع أو المواقع الإلكترونية التجارية فإنه يجدها تعج وتزدحم بالإعلانات المدفوعة الثمن وفي كل المواضيع والمناسبات؛ بدءًا من التهاني على اختلاف مناسباتها وانتهاءً بالتعازي على اختلاف أسبابها.
فلان يهنئ صديقه فلان بمناسبة الخطوبة على صاحبة الصون والعفاف فلانة، وتجد صور الخاطبين في ملابس يندى لها جبين كل حر وغيور.
وإذا كان الزواج فإنهم الأقارب وإنهم الأصدقاء يهنئون بمناسبة الزواج، وفي المقابل فإنهم والدا العريس، حيث لا أقل من صفحة كاملة في إحدى الصحف يظهر فيها العريس مع والديه وإخوته، وفيها يشكر كل من حضر وشارك في الفرحة الكبرى، ليصبح الناس يعيشون في سلسلة من المجاملات لها أول ولا آخر لها.
وبعد الزواج وإتمام الله النعمة ليرزق هذان الزوجان الولد البكر، وإذا بها التهاني تنهال من جديد، وإذا بالمباركات وإذا بالطيور التي تغرد والفراشات التي تحوم والزهرات التي تتفتح ابتهاجًا بالمولود البكر فلان؛ وفق النصوص التي نقرأها وتزدحم بها صفحات الصحف.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإذ أننا بعد مدة نقرأ عن مباركة مولد الابن الثاني فرحًا بقدومه شقيقًا لفلان الذي سبق وباركوا له عند مولده وباركوا لأبيه عند زواجه وباركوا لأمه وأبيه عند خطوبتهما.
وإذا هنأ أهل الزوج في الصحيفة ابنهم بمولد الحفيد فإنه يصبح حتمًا ولزامًا على أهل الزوجة أن يباركوا ويهنئوا ابنتهم بذلك المولود، في حالة من التشابه والتقليد والمباهاة تشتمّ منها رائحة ليس لله فيها نصيب!!!
ولا تغيب عن العين تلك المباركات والتهاني التي تنضح منها رائحة التباهي والتفاخر، وهي تتصدر صفحات الصحف من فلان يهنئ فيها ابنه بمناسبة اجتيازه امتحان الطب الحكومي "وبتفوق"، مع معرفتنا جميعًا أن النتائج تكون إما ناجحًا أو عكسها، فلا أدري من أين عرفوا أنه نجح بتفوق، لا بل إن البعض يزين تهانيه المنمقة والممجوجة بالقول بعد سرد تمايل السنابل وزقزقة العصافير والفراشات التي تحوم فرحًا بفلان، الذي نجح في امتحان الطب الحكومي "من أول مرة" في همر ولمز إلى أن غيره قد نجح بعد الامتحان الثاني أو الثالث، كثير هيك يا ناس. فعلًا زودتوها!
نعم! إننا نفرح لأبنائنا وبناتنا عند ميلادهم، ولسان حالنا نقول: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، وإننا نفرح لهم بدراستهم وتخرجهم، ونفرح لخطوبتهم ولزواجهم. وإننا نبكي ونحزن وتتقطر القلوب إذا أصابهم أي مكروه أو مرض. وإنها المناسبات الاجتماعية المباركة والعادات الأصيلة في شعبنا يجب أن نحافظ عليها، لكن هذا لا يعني أن نجامل بعضنا البعض، وأن نسكت عن أخطاء تبدأ صغيرة وإذا بها مع الأيام ومع التقليد والمحاكاة تصبح خارجة عن كل منطق وخلقٍ ودين.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]