أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الأربعاء الماضي الموافق 2015/2/25 حكمًا يُسمح بمقتضاه للأحزاب الإسرائيلية المعنية بتوزيع عدد من مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية سيئة الصيت، والتي تحتوي رسومًا مسيئة إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!!
وأشارت هذه المحكمة في قرارها إلى أن القانون لا يمنع توزيع مجلة بسبب محتواها!! بمعنى أن المحكمة تقول بصريح العبارة إن القانون لا يمنع توزيع مجلة تحتوي رسومًا مسيئة إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!! وهذا يعني أن هذه المحكمة تقر مبدأ توزيع محتوى مسيء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان هذا المحتوى رسومًا أو غيرها، وسواء نشرته مجلة "شارلي إيبدو" أو غيرها من مجلات الدنيا وصحفها، أو حتى لو نشرته أية وسيلة إعلامية، بحجة سيادة القانون.. هذا أولًا!! وبحجة حرية التعبير.. هذا ثانيًا!! وهو تفسير موهوم مضلل لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة حتى وإن صدر من المحكمة العليا الإسرائيلية!! لأن السؤال الذي يُسأل: هل هناك (سيادة قانون) مطلقة؟! وهل هناك (حرية تعبير) مطلقة؟!
إذا كانت هناك (سيادة قانون) مطلقة فلماذا ضُرب بالقرارات التي سبق وأصدرتها هذه المحكمة العليا الإسرائيلية عرض الحائط؛ يوم أن أقرت بجواز عودة أهل إقرث وبرعم والغابسية إلى قراهم، التي أخرجوا منها في بدايات نكبة فلسطين، يوم أن دمرت العصابات الصهيونية أكثر من خمسمائة مدينة وقرية فلسطينية، كانت تمتد ما بين الجليل والمثلث والنقب والساحل، ورحّلت في نفس الوقت أهلها منها!!
فهل عاد أي من أهل إقرث المهجرة أو برعم المهجرة أو الغابسية المهجرة إلى قريتهم استنادًا إلى القرار الذي أصدرته المحكمة العليا الإسرائيلية من منطلق سيادة القانون؟! الجواب واضح!! لم يعد أي واحد منهم حتى الآن إلى قريته، رغم أنه مضى على صدور هذه القرار من هذه المحكمة العليا عشرات السنوات!! فأين (سيادة القانون) التي تتحدث عنها هذه المحكمة؟!
من الواضح أنه ضُرب بمبدأ (سيادة القانون) عرض الحائط في قضية إقرث وبرعم والغابسية، وما عاد هناك قانون ولا سيادة قانون ولا دور لمحكمة عليا أو محكمة سفلى!! وهذه عيّنة من قضايا كثيرة حكمت فيها هذه المحكمة العليا الإسرائيلية وضُرب بها عرض الحائط!! وهذا يعني أن تنفيذ قرارات هذه المحكمة لا يقوم على مبدأ (سيادة القانون)، بل يقوم على مبدأ (شرعنة مصالح المؤسسة الإسرائيلية)!! بمعنى أن أي قرار صدر عن هذا المحكمة العليا إذا كان يخدم مبدأ (مصالح المؤسسة الإسرائيلية) فإنه يُقبل ويُنفّذ بادعاء (سيادة القانون)، ولكنه إذا تعارض مع مبدأ (مصالح المؤسسة الإسرائيلية) فإنه يُجمّد وتُغيَّب (سيادة القانون) في نفس الوقت!!
ولذلك أنا على يقين أن مبدأ توزيع مجلة (شارلي إيبدو) المسيئة إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يبدو أنه يتوافق مع مبدأ (مصلحة المؤسسة الإسرائيلية) وفق حسابات من يمثلون هذه المؤسسة اليوم؛ أمثال "نتنياهو" و"ليبرمان" ومن يدور في فلكهم. لذلك تجرأت المحكمة العليا الإسرائيلية على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرت جواز توزيع هذه المجلة الفرنسية المسيئة!!
ثم إن أكثر ما يستفزني هو أن يُقال إن إقرار هذه المحكمة العليا بجواز توزيع هذه المجلة الفرنسية المسيئة استند إلى مبدأ (حرية التعبير)؟! لأن هذا التخريج لهذا القرار بادعاء حرية التعبير يقوم على الوهم والتلبيس والضحك على الذقون!! لماذا؟! أرأيتم لو أن أحدهم عقد مؤتمرًا صحافيًا في تل أبيب أو باريس، وقال فيه إنه باحث في التاريخ ويحمل لقب برفسور في علم التاريخ ومن باب (حرية التعبير) فقد تبين له بعد بحث مستفيض أن "هتلر" لم يقتل ستة ملايين يهودي بل قتل أقل من ذلك بكثير، بالضبط كما قُتل غيرهم من سائر الشعوب التي اكتوت بنار الحرب العالمية الثانية!! ولا يوجد شيء اسمه أفران الغاز!! أو لو أن هذا الشخص المفترض قال إنه بعد تتبعه لروايات كثيرة وشهادات كثيرة تبين له أن (فرية الدم) وقعت على أطفال من أوروبا ولم تكن مجرد إشاعة لا أصل لها!! ماذا كان سيحدث لهذا القائل؟! هل كان سيُقال له: بيننا وبينك الدليل والحجة والجدال بالتي هي أحسن من باب (حرية التعبير)؟! وهل كان سيُقال له كما قال "ليبرمان" في معرض تعقيبه على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية: (ربما أخالفك الرأي ولكنني على استعداد لأن أموت حتى تعبّر عن رأيك هذا)؟! هل كان سيُقال له ذلك، أم كان سيتعرض إلى الاعتقال فورًا؟! ثم كان سيتعرض إلى المحاكمة المريرة ثم الحكم عليه بالسجن لبضع سنين!! وقد يتعرض إلى الفصل من جامعته إذا كان محاضرًا فيها!! وقد يتعرض إلى الفصل من عمله بغض النظر عن موقع العمل!! هذا ما كان سيقع عليه وأكثر من ذلك!! فأين حرية التعبير إذن؟! قد يقول قائل: هناك قانون يُجَّرم كل من ينكر محرقة اليهود أو من يعلن تصديقه لفرية الدم!! بهدف عدم المس بمشاعر اليهود في العالم من ينكر (محرقة اليهود) أو من يعلن تصديقه لـ(فرية الدم)!! بهدف عدم المس بمشاعر اليهود في العالم!! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يجوز المس بمقام رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولماذا يتم المس بمشاعر مليار ونصف مليار مسلم وعربي في العالم؟! وإذا كان القانون يُجرّم مبدأ إنكار (محرقة اليهود) ومبدأ تصديق (فرية الدم) أليس من باب أولى أن يُجّرم مبدأ المس برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟! ومبدأ المس بكل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام؟! أم هل تحول مبدأ (سيادة القانون) أو مبدأ (حرية التعبير) وسيلة للتلاعب بالعقول، ولتبرير الحقد الأسود على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا زلت أذكر يوم أن أصدر المفكر الفرنسي (رجاء غارودي) كتابه الذي كان بعنوان (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)؛ والذي تعرض فيه لمحرقة اليهود وأبدى فيه عدم تصديقه للكثير من تفصيلاتها، فقامت فرنسا في حينه ولم تقعد، وحاصره القضاء الفرنسي فورًا، وطاردته المحاكم الفرنسية وطالبوا بالزج به في غيابة السجن بضع سنين، ولم يجد له نصيرًا من كل رجال الفكر والأدب والإعلام في فرنسا في تلك المحنة إلا رجلًا واحدًا فقط من كل فرنسا كان اسمه (الأب بيير).. فلماذا هذه الازدواجية في المعايير بين المفكر (رجاء غارودي) ورسام مجلة (شارلي إيبدو)؟! هذا من جهة ومن جهة ثانية بين المس بحدث تاريخي اسمه (محرقة اليهود) ومقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟! من هذا المخلوق من بني البشر الذي سمح لنفسه أن يتحكم في عقولنا وتفكيرها وفي قلوبنا ومشاعرها وأن يقول لنا: (ما أريكم إلا ما أرى)؟! ثم لا زلت أذكر ما وقع عليّ في (لندن) عام 2011 يوم أن اقتادتني الشرطة البريطانية من الفندق إلى السجن ثم عشت بعد ذلك عشرة شهور ما بين السجن والإقامة الجبرية في أحد البيوت في لندن مع شروط قاسية جدًا!! لماذا كان ذلك؟! تبين فيما بعد أنه لأنني كنت قد قلت في موعظة دينية لي في عام 2007: (اسألوا أطفال أوروبا ماذا جرى لهم)، حيث حاول البعض أن يدّعي أنني قصدت بذلك تصديق (فرية الدم)؟! ثم ها هو القضاء الإسرائيلي الذي أجاز توزيع مجلة (شارلي إيبدو) من باب (حرية التعبير) هو نفس القضاء الذي يحاكمني اليوم على نفس تلك الجملة التي حاكمني عليها القضاء البريطاني!! وهذا يعني أن البعض بات يتعامل مع مبدأ (حرية التعبير) كمادة المعجونة التي يلهو بها الأطفال في صف الروضة والبستان، بهدف أن يصوغ منها الشكل الذي يتوافق مع مصلحته!! وليس أبعد من ذلك، حتى لو كانت تحمل بين السطور تعبيرًا عن حقده على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!! ومع يقيني الأبدي أن مقام رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى من كل قضاة الأرض، ومن كل محاكم الأرض، ومن كل أحكامها وهو الذي يصدق فيه قول الحكيم: (أين الثرى من الثريا)؛ فهو الثريا وكل الحاقدين عليه هم الثرى وأقل من ذلك، ومع يقيني أنه السراج المنير والرحمة المهداة وسيد ولد آدم والشافع المشفع وصاحب الوسيلة والفضيلة والمقام المحموم، ولن يضير مقامه حقد شانئ ولا سفاهة عتل ولا بذاءة حاسد.. مع يقيني بكل ذلك فلقد بات من الواضح لي أن المحكمة العليا الإسرائيلية أخذت بهملجات ليبرمان – الذي كان حارسًا لأحد النوادي الليلية سابقًا – وتجاهلت قول الأديب اليهودي (أ. ب.. يهو شواع) الذي أكد أن (النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – هو من صنع أكبر وأهم حضارة في العالم، قادت البشرية خلال مئات السنوات، ولا نزال إلى يومنا هذا نتمتع بالعديد من مزاياها وفضائلها.. فلماذا يتعرضون لمحمد – صلى الله عليه وسلم – )؟!.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]