قبل أكثر من عشرة أعوام شاركت في لقاء مع الطلاب العرب في جامعة بئر السبع، فقال لي أحد المتحدثين متسائلًا: مع من أنتم؟! هل أنتم مع النظام الاقتصادي الرأسمالي أم مع النظام الشيوعي؟! فقلت له: لسنا مع هذا ولا ذاك، نحن مع النظام الاقتصادي الإسلامي. فقال متعجبًا: ما نعرفه أن هناك نظامين اقتصاديين في العالم؛ الرأسمالي والشيوعي، فما هو النظام الاقتصادي الإسلامي؟! فقلت: هو النظام الاقتصادي الذي لا يقوم على المفاهيم الرأسمالية ولا على المفاهيم الشيوعية، بل له مفاهيمه الخاصة به التي وردت في القرآن والسنة، والتي أشبع الحديث عنها المجتهدون الثقات من الأمة المسلمة.
ورغم أن هذا الحوار وقع -كما قلت- قبل أكثر من عشرة أعوام إلا أن هذا النمط من التفكير، الذي يريد أن يفرض علينا أن نختار الانحياز إلى أحد خيارين فقط لا يزال قائمًا حتى الآن، ولا يزال يقول لنا: إما أن تكونوا مع الخيار الأول أو الخيار الثاني، فإن لم تكونوا مع الخيار الأول فأنتم تلقائيًا مع الخيار الثاني، وإن لم تكونوا مع الخيار الثاني فأنتم تلقائيًا مع الخيار الأول، تمامًا كما حاولت أن تفرضه علينا المذيعة التي أدارت الحوار معي في برنامج "بلا قيود" في قناة "بي. بي. سي"؛ حيث حاولت أن تفرض عليّ أحد خيارين: إما أن نؤيد قيام خلافة إسلامية وهذا يعني أننا مع "داعش"، أو أن نعارض قيام خلافة إسلامية حتى لا نكون مع "داعش"!! فقلت لها في مجمل حديثي: نحن ندعو إلى قيام خلافة إسلامية ولسنا مع "داعش"، و"داعش" نختلف معها في فكرها وممارساتها، ونرى فيها عقبة في طريق المشروع الإسلامي، ونحن ندعو إلى قيام خلافة إسلامية ليس لأن هذا هو رأي الحركة الإسلامية وهو برنامج عملها الخاص بها، بل ندعو إلى قيام هذه الخلافة لأن ذلك من مقتضيات انتمائنا إلى الإسلام، فكل مسلم يعي بفهم راشد ما معنى انتمائه إلى الإسلام؛ فإنه تلقائيًا يدعو إلى قيام هذه الخلافة، وهذا أبو بكر الصديق كان الخليفة الأول، وهذا عمر بن الخطاب كان الخليفة الثاني، وهذا عثمان بن عفان كان الخليفة الثالث، وهذا علي بن أبي طالب كان الخليفة الرابع؛ ولم يكن أي واحد منهم رضي الله عنهم من "داعش"!! ولذلك يخطئ كثيرًا من يتبنى هذا النمط من التفكير، وسيظلم نفسه وسيظلمنا كذلك إن ظل مصرًّا على فرض خيارين علينا فقط كي نختار أحدهما كأنه لا خيار آخر في الحياة، بل قد يضل ويضلل الكثير –من حيث يعلم أو لا يعلم، ومن حيث يقصد أو لا يقصد– عندما يقول لنا وهو مصرّ على هذا النمط من التفكير المتخلف: إما أن تكونوا مع معسكر بشار وإيران و"حزب الله" وروسيا، أو أن تكونوا مع معسكر الرجعية العربية وأمريكا والمؤسسة الإسرائيلية!! وكأنه لا يوجد خيار ثالث، وكأن الذي لا يختار أن يكون مع معسكر بشار وإيران و"حزب الله" وروسيا فهو تلقائيًا مع معسكر الرجعية العربية وأمريكا والمؤسسة الإسرائيلية!! أو كأن الذي لا يريد أن يكون مع معسكر الرجعية العربية وأمريكا والمؤسسة الإسرائيلية فهو مُلزم ويجب عليه أن يكون مع معسكر بشار وإيران و"حزب الله" وروسيا، ولذلك كم كنا ولا زلنا نسخر من هذا التفكير المتخلف ومن هذا النمط العقيم. وها نحن نعلنها صراحة لا تلعثم فيها: لسنا مع هؤلاء ولا هؤلاء، بل نحن مع أنفسنا، ونحن مع حقوق شعبنا الفلسطيني وشعوبنا المسلمة والعربية، ولذلك نحن مع الربيع العربي، ومع حق شعوبنا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا أن تسترد شرعيتها كاملة غير منقوصة، وأن تسترد حريتها بلا وصاية من أحد، وأن تمارس كامل حقها باختيار قيادتها الشرعية المنتخبة. وعلى هذا الأساس نحن ضد السيسي وبلطجيته، وضد بشار وشبيحته، وضد إيران وأذرعها الطائفية، وضد حفتر في ليبيا، وضد الحوثيين في اليمن، وضد فرق الموت التي تعرف باسم (الحشد الشعبي) في العراق، وضد "داعش" وفكرها وممارساتها حيثما كانت، وضد الرجعية العربية ودعمها لهؤلاء الطواغيت أو لبعضهم.
ولقد سقطت – في نظرنا – كل الأقنعة عن كل الوجوه، وبانت حقيقة هذه الوجوه؛ سواء كانت وجه حاكم أو حكم أو حزب أو دولة، وعلى هذا الأساس بانت –في نظرنا– حقيقة شعارات "محور ممانعة" أو "محور مقاومة" أو "محور جبهة صمود" أو "جبهة تصدي"، ونقولها بلا تردد: إن أي شعار من هذه الشعارات إن قام ليبني أمجاد صنم لشخص أو لحزب أو لحكم أو لدولة على حساب دماء وأرواح وحريات وحقوق وثوابت شعوبنا المسلمة والعربية والفلسطينية فهو شعار تحت الأقدام، وليكن من يكون رافع هذا الشعار. ثم على هذا الأساس بانت – في نظرنا – حقيقة شعارات "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل"، التي حرصت إيران على رفعها منذ عام 1979 وحتى الآن؛ ويبدو أنها قصدت بهذه الشعارات الموت للشعب العراقي والموت للشعب السوري والموت للشعب اليمني والموت للشعب الأفغاني والموت للشعب الباكستاني. ويبدو أن قائمة الموت لشعوبنا المسلمة والعربية قد تطول في حسابات إيران ما دامت من مقتضيات مشروعها التوسعي على حساب الأمة المسلمة والعالم العربي!!
لكل ذلك لسنا مع هذا النمط من التفكير المتخلف، الذي يحاول زجنا وحصرنا في خيارات كلها مرفوضة وكلها مرة وكلها مصدر شؤم ودمار كنا ولا زلنا نعاني منه على صعيدنا الإسلامي والعربي والفلسطيني. وهذا ما يضطرنا إلى أن نؤكد يومًا بعد يوم أننا نرفض أن تكون حرية فلسطين على حساب حرية أي شعب من الشعوب المسلمة والعربية، ونرفض أن يكون الحفاظ على دماء الشعب الفلسطيني أو دماء أي شعب مسلم أو عربي على حساب إراقة دماء أي شعب من الشعوب المسلمة والعربية، فلا توجد حرية مقدسة للشعب الفلسطيني أو لأي شعب مسلم أو عربي تسمو على حرية أي شعب من الشعوب المسلمة والعربية، ولا يوجد دماء مقدسة للشعب الفلسطيني أو لأي شعب مسلم أو عربي تسمو على سائر دماء الشعوب المسلمة والعربية!! ولذلك لا معنى لأن يُقال لنا: هل أنتم مع ضاحي خلفان أم رستم غزالة الذي قضى قبل أيام؟! لسنا مع هذا ولا ذاك!! نحن مع أن يتمتع الشعب السوري والشعب الإماراتي وسائر الشعوب المسلمة والعربية بالسلم الاجتماعي، بعيدًا عن سطوة أية مخابرات قامت لتقهر شعوبها!! ولا معنى لأن يُقال لنا: هل أنتم مع حكم بشار أو حكم "داعش" في سوريا؟! لسنا مع هذا ولا ذاك!! نحن مع حكم الشعب السوري في سوريا. ولا معنى لأن يُقال لنا: هل أنتم مع النفوذ الإيراني أو الأمريكي في العراق؟! لسنا مع هذا ولا ذاك!! نحن مع نفوذ الشعب العراقي في العراق. ولا معنى لأن يُقال لنا: هل أنتم مع التدخل الروسي أو الأوروبي في ليبيا؟! لسنا مع هذا ولا ذاك!! نحن مع سيادة الشعب الليبي وشرعيته في ليبيا.
هكذا كنا وهكذا سنبقى حتى نلقى الله تعالى، نعرف الحق وننتصر له، ونؤازر من ناصر الحق؛ سواء كان فردًا أو حزبًا أو حاكمًا، ونقف في وجه من حارب الحق؛ سواء كان فردًا أو حزبًا أو حاكمًا، ولن ننتظر صدقة من أحد، وسنبقى في مسيرة حركتنا الإسلامية على العهد، وكما هي الحرة؛ تموت ولا تأكل بثدييها.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]