يوم السبت 16/5/2015 أصدر القاضي شعبان الشامي الحكم بإعدام الرئيس المصري محمد مرسي، مع أكثر من مائة من رجالات مصر وأخيارها، وأحال القرار إلى المفتي لتقديم توصية، ومن ثم يتطلب موافقة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، مع العلم أنه هو من يقف خلف هذا الحكم.
منذ صدور القرار ووسائل الإعلام تتحدث عن تحرك سعودي، وبالتشاور مع تركيا، للضغط على السيسي لمنع تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس مرسي، لما لذلك من تداعيات على المنطقة كلها.
إن محاولة الملك سلمان منع تنفيذ الإعدام، رغم الموقف الذي جارت به السعودية -خلال حكم الملك عبد الله-السيسي، ووصفت جماعة الإخوان المسلمين بالإرهابية، ودعمت الانقلاب الدموي في مصر، أقول إن تحرك الملك سلمان ليعود بالذاكرة إلى نفس المشهد ونفس دور السعودية ومحاولتها منع إعدام الشهيد سيد قطب خلال حكم جمال عبد الناصر، الذي انقلب على الرئيس محمد نجيب وتفرد بالسلطة وأقام الحكم الدكتاتوري بدل النظام الشوري، وتعدى على رجال القانون والدعاة وأساتذة الفكر والعلماء.
اعتقلت شرطة انقلاب عبد الناصر سيد قطب المرة الأولى عام 1954 وبقي مدة شهرين في المعتقل مع قيادات الإخوان المسلمين، الذين كانوا شركاء رئيسين في ثورة يوليو 1952 ضد الملك فاروق؛ هذه الثورة التي أتت بمحمد نجيب، الذي انقلب عليه عبد الناصر ثم انقلب على من كانوا شركاء الثورة، إن لم نقل القاعدة الشعبية التي دعمت الثورة، ثم اعتقل مرة أخرى بعد مسرحية "حادثة المنشية" التي اتهم فيها عبد الناصر الإخوان المسلمين بمحاولة اغتياله يوم 1954/10/26 حيث قُدم سيد قطب إلى المحكمة برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي وحكمت عليه المحكمة بالسجن مدة 15 سنة، ثم توسط الرئيس العراقي عبد السلام عارف فأفرج عنه بعد عشر سنوات بعفو صحي عام 1964.
وفي العام 1965 أعلن جمال عبد الناصر من موسكو -وكان في زيارة لها- عن اكتشاف "مؤامرة" دبرها الإخوان المسلمون بقيادة سيد قطب لاغتياله وقلب نظام الحكم، فاعتقل سيد قطب للمرة الثالثة يوم 1965/8/9 ثم بدأت محاكمته أمام القاضي فؤاد الدجوي يوم 1966/4/12، وأصدرت المحكمة حكم الإعدام على سيد قطب يوم 1966/8/21. وقد وصلت برقيات كثيرة من أنحاء العالم العربي والإسلامي تطالب عبد الناصر بعدم تنفيذ حكم الإعدام في سيد قطب.
وكان المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز؛ ملك السعودية قد أرسل برقية لعبد الناصر وصلت يوم 1966/8/28، يرجوه فيها عدم إعدام سيد قطب، وأوصل سامي شرف البرقية لعبد الناصر في ذلك المساء، فقال عبد الناصر لسامي شرف: "أعدموه في الفجر بُكرة، واعرض عليَّ البرقية بعد الإعدام"، ثم أرسل عبد الناصر اعتذارا للملك فيصل بأن البرقية وصلت بعد تنفيذ الإعدام!! وكان تنفيذ الإعدام قد نفذ قبل فجر الإثنين 13 جمادى الأولى 1386هـ وفق 1966/8/29.
لقد أفرح إعدام سيد قطب أعداء الإسلام بكل انتماءاتهم الفكرية والدينية والسياسية من الشرق والغرب، فيما حزن عليه المسلمون، حيث أقيمت صلاة الغائب عليه في كل الأوطان الإسلامية، وأصدرت الكثير من الصحف الوطنية والإسلامية أعدادًا خاصة عن الشهيد سيد قطب وإخوانه. ولم تمض سوى بضعة أشهر على إعدام سيد قطب حتى كانت نكسة وفضيحة حزيران 1967 وهزم عبد الناصر شر هزيمة أمام الإسرائيليين واحتلت سيناء، وكتب المفكر المغربي علال الفاسي جملته الشهيرة: "ما كان الله لينصر حربًا يقودها قاتل سيد قطب".
إنه الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى، والذي قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه شنقًا قد ساوموه على التراجع عن آرائه وقناعاته ومواقفه من جمال عبد الناصر مقابل العفو عنه، وأن يكتب رسالة استرحام، لكنه البطل الذي ابتسم وقال للذي جاء بهذا العرض: "إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة تأبى أن تكتب كلمة واحدة تقرُ بها لحاكم طاغية، فإن كنتُ مسجونًا بحق، فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل".
إنه سيد قطب رحمه الله تعالى الذي قال: (إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا ولكن بشرط واحد؛ أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، وأن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ويقدموا دماءهم غذاءً لكلمة الحق، إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثًا هامدة حتى إذا مِتنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء).
إنه سيد قطب الشهيد الذي رفض أن يطأطئ رأسه لطاغية مستبد -هو عبد الناصر- ملأ الدنيا شعارات وبريقًا، لكنه الذي انهزم وهرب هو وجنوده في أول مواجهة مع الإسرائيليين، ليتبين أن بطولاته المزعومة لم تمارس إلا ضد الشرفاء والعلماء والوطنيين وأصحاب العلم والقلم من أخيار مصر؛ كان الشهيد سيد قطب واحدًا منهم.
إنه سيد قطب الذي رفض المهادنة والمساومة والاسترحام والإقرار لمن اغتصب الحكم واغتصب إرادة الشعب.
لقد كان موقف الملك فيصل رحمه الله موقفًا دينيًا وقوميًا وإنسانيًا، حين حاول التدخل لمنع إعدام سيد قطب، وهو صاحب الموقف المشهور يوم باشر بقطع النفط عن الغرب المنحاز إلى تل أبيب خلال حرب 1973، وكان الثمن لذلك حياته؛ حيث جرى تدبير اغتياله وقتله رحمه الله.
وها هي الأيام تدور، وتكون ثورة 25 يناير التي أطاحت بحسني مبارك، ثم جاء محمد مرسي كأول رئيس منتخب لينقلب عليه السيسي ويلقي به في السجن، بل ويصدر حكم الإعدام في حقه هو والمئات من أبطال وقادة جماعة الإخوان المسلمين.
ولكنه الملك عبد الله الذي وقعت في فخ السيسي وزيفه وكذبه، فإذا به يسانده ويدعمه ويمول انقلابه، بل ويعلن عن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية محظورة، ويكون لذلك تأثير على غزة وحصارها واليمن وانقلاب الحوثيين فيها واستهدافهم لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن ممثلين بحزب الإصلاح اليمني.
لم تطل المدة، ويقدر الله أن يتغير رأس الحكم في السعودية، وليأتي الملك سلمان بعد الملك عبد الله، وتتسارع الأحداث في المنطقة وتبدأ الحرب في اليمن. وسرعان ما اكتُشف كذب السيسي ونفاقه وتلونه سعيًا لابتزاز أموال السعودية ونهبها، ليس لصالح مصر بل لصالح مجموعة لصوص يقف السيسي في مقدمتهم.
ويصدر قرار إعدام الرئيس محمد مرسي في محكمة هزلية يفوح منها نتن الحقد والكراهية والدكتاتورية، ويشعر كل عاقل أن السيسي قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأن الذي أعدم 4000 في ميدان رابعة دون أن يرفّ له جفن قد ينفذ حكم الإعدام بالرئيس مرسي؛ ولكن هذا معناه -عند كل عاقل وحريص على مستقبل مصر- أنها الفتنة وأنها الكارثة التي ستقع على مصر، وفي هذا خسارة وأية خسارة.
ولقد سمعنا عن تلك المشاورات التي تجري بين السعودية من خلال الملك سلمان، وبين تركيا من خلال الرئيس أردوغان، سعيًا لمنع ذلك الشقي السيسي من ارتكاب جريمته في حق البطل محمد مرسي. إنه مرسي، الذي لا تزال كلماته ترن في أذن كل مصري أنه على استعداد لدفع حياته ثمنًا من أجل حرية شعب مصر، ورفض كل العروض التي قدمت له، مرة عبر ممثلة الاتحاد الأوروبي "آشتون"، ومرة عبر وسطاء آخرين للخروج من مصر وإطلاق سراحه من السجن مقابل الاعتراف بالانقلاب والقبول بالسيسي رئيسًا لمصر.
فلكأني بالبطل محمد مرسي يتمثل كلمات البطل الشهيد سيد قطب؛ هذا أمام السيسي وذاك أمام عبد الناصر، ليقول نفس العبارة: (إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة تأبى أن تكتب كلمة واحدة تقربها لحاكم طاغية، فإن كنت مسجونًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل).
ولكن، ولأننا أمام مشهد الدكتاتور الحاقد المتأله الكاره للدين والوطنية وللشرف ولكل من يمثلها، ولأنه الذي ما عاد يخفى على أحد خدمته لأسياده الإسرائيليين، لعلنا لا نعرف حقيقة استجابته لمحاولات الملك سلمان ملك السعودية بعدم تنفيذ حكم الإعدام في حق الرئيس مرسي. فيا ترى؛ هل خرج موفدو الملك سلمان إلى القاهرة؟! وهل وصلت برقيات القصر الملكي السعودي إلى قصر السيسي في الاتحادية في القاهرة؟
لقد كان قرار القاضي فؤاد الدجوي في حق سيد قطب يوم 1966/8/21 هو نفسه قرار القاضي "شعبان الشامي" في حق محمد مرسي، والذي صدر يوم 2015/5/16، فهل نحن بين يدي سيناريو جديد فيه يقدم السيسي على إعدام محمد مرسي ثم يتذرع بكل الذرائع، فيها يتهرب من الاستجابة لتدخل الملك سلمان وحتى رؤساء الدول الكثيرين الذين ارتفعت أصواتهم ضد قرار إعدام الرئيس محمد مرسي؟
لكأني بالشهيد سيد قطب وهو يقول قصيدته الرائعة "أخي" والتي قالها خلف بوابات سجن عبد الناصر قبل خمسين سنة (1956)، لكأنني به يوجهها إلى أخيه محمد مرسي خلف بوابات سجن السيسي في العام 2015 ليقول له:
أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصمًا فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجرٌ جديد
فأطلق لروحك أشواقها تر الفجر يرمقنا من بعيد
أخي إن ذرفت علي الدموع وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجدٍ تليد
أخي إن نمُتْ نلق أحبابنا فروضات ربي أعِدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
ليس فقط أن الشهيد سيد قطب كأنه يدعو محمد مرسي إلى الصبر والاحتمال، وأن طريق الدعوة وطريق الرجال هي طريق الجنة، بل إنه الذي وفي قصيدته الموجهة إلى عملاء أمريكا يومها -يقصد جمال عبد الناصر- فكأنها هي التي يوجهها اليوم إلى محمد مرسي عن عملاء أمريكا الجدد متمثلين بالسيسي، إنها قصيدة سيد قطب ورائعته التي هي بعنوان "هُبل هبلٌ" والتي يقول فيها :
هُبلٌ ... هُبلْ
رمزُ السخافةِ والجهالة والدَّجَل
لا تَسألن يا صاحبي تلكَ الجموع
لِمن التعبُّدُ والمثوبةُ والخُضوع
دَعْها فما هي غيرُ خِرفانِ القطيع
معبودُها صَنَمٌ يراهُ العمُّ سام
وتَكفَّلَ الدولارُ كي يُضفي عليه الاحترام
وسَعى القطيعُ غباوة ً يا للبطل
هُبلٌ .. هُبلْ
رمزُ الخيانةِ والجهالةِ والسخافةِ والدجل
هَتّافةُ التهريجِ ما ملّوا الثّناء
زعموا لهُ ما ليس عندَ الأنبياء
مَلَكٌ تَجَلبَبَ بالضياءِ وجاء من كبدِ السماء
هو فاتحٌ هو عَبقريٌ مُلهَمُ
هو مُرسَلٌ هو عالمٌ ومَعلّمُ
ومن الجهالةِ ما قَتَل
رمزُ الخيانةِ والعمالةِ والدجل
هُبلٌ ... هُبلْ
صِيغت لهُ الأمجادُ زائفةً فَصَدّقها الغبي
واستنكرَ الكذبَ الصُّراحَ وَرَدّهُ الحُرُّ الأبي
لكأنما الأحرار في هذا الزمانِ هُمُ القلي
فليدخلوا السجنَ الرهيبَ ويَصبروا الصبرَ الجميل
ولْيَشهدوا أقسى رواية
فلكل طاغيةٍ نهاية
ولكلِ مخلوقٍ أجل
هُبلٌ .. هُبلْ
هُبلٌ .. هُبلْ
وسواءً نجحت وساطة الملك سلمان والرئيس أردوغان أم لم تنجح، فإن لكل مخلوق أجلا يا سيادة الرئيس، وإن لكل طاغية نهاية كذلك، أما أنت فإن صمودك سيبعث الحياة في مصر وشعبها، وأما هُبل فإنه إلى مزابل التاريخ. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]