باتت الحاجة إلى "الذاكرة العادلة" مطلبًا ملحًا في هذه الأيام، وإلا سيكون البديل هو تزييف التاريخ وقلب الحقائق وصك شهادات البطولة والخيانة بالمجان.
وعلى سبيل المثال فإن "الذاكرة العادلة" تقول إن السلطان عبد الحميد الثاني قال لـ"هرتسل"، يوم أن طالبه الأخير بإصدار إذن بالموافقة على هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين، قال له: "إن فلسطين ليست ملك يميني، وإني أخاف أن يسألني الله عنها يوم القيامة، ولأن يعمل المبضع بقص طرف من جسدي أهون عليّ من أن أمنحكم إذنًا بالهجرة إلى فلسطين". ولما حاول "هرتسل" أن يلح بطلبه وأن يغريه بملايين الليرات الذهبية طرده السلطان عبد الحميد من مجلسه!!
وفي المقابل فإن الاتحاد السوفياتي كان أول من اعترف بالمؤسسة الاسرائيلية!! ومع ذلك فإن البعض يريد أن يستهبل ذاكرتنا وأن يوهمنا أن نكبة فلسطين سببها الخلافة العثمانية، وأن اعتراف الاتحاد السوفياتي بالمؤسسة الإسرائيلية كان مجرد اعتراف شكلي ليس إلا، ونحن الطبقة الفلسطينية المسحوقة مجبرون على الموافقة على هذا التفسير، ولو أنكرته عقولنا وذاكرتنا؛ وإلا فسنُتهم عند هؤلاء البعض بأننا نعاني من "القحط السياسي"، وسيطردوننا من منزلة "التقدمية" إلى منزلة "الرجعية"!!
وما ذكرته ليس مجرد مثال يتيم وعابر، بل القائمة التي تضم ما يشبه هذا المثال طويلة. فهذا أحد المُفتين الأتراك حاول أن يستفزه أحد المسؤولين الإسرائيليين وقال شامتًا: ها نحن انتصرنا عليكم واحتللنا فلسطين، مع أنك تقول عن نفسك إنك مؤمن وأنا كافر، والكافر لا ينتصر على المؤمن!! فقال له ذاك المفتي بكل هدوء: "الله تعالى جمعكم في فلسطين لا لتنتصروا علينا بل لنقضي على فسادكم"، فصمت ذاك المسؤول الإسرائيلي ولم يدرِ ماذا يقول!!
وفي المقابل فكلنا نعلم عن السلاح التشيكي الذي دعم المشروع الصهيوني في بدايات تكوين المؤسسة الاسرائيلية، وهذا يعني أن الاتحاد السوفياتي أعطى الشرعية لنكبة فلسطين يوم أن كان أول المعترفين بالمؤسسة الإسرائيلية، وأن السلاح التشيكي ساهم في قتل شعبنا الفلسطيني وإراقة دمه!! ومع ذلك يريد هؤلاء البعض أن نمسح من ذاكرتنا هذا الاعتراف السوفياتي وهذا السلاح التشيكي، وأن نردد ادعاءهم القائم على تغييب الذاكرة، الذي يحاولون من خلاله تحميل الخلافة العثمانية مسؤولية نكبة فلسطين!!
بل الأعجب من ذلك أن هؤلاء البعض صفقوا لحركة "الاتحاد والترقي" وحركة "تركيا الفتاة" ثم للدكتاتور "مصطفى كمال أتاتورك"، لأنهم انقلبوا على الخلافة العثمانية وعزلوا السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم منذ عام 1908، ومن جاء بعده من سلاطين كانوا تحت سطوتهم، وكان دورهم شكليًا. وفي نفس الوقت الذي انقلبوا فيه على الخلافة وحاربوها كرمز لسيادة المشروع الإسلامي الجامع لوحدة الأمة المسلمة، فقد مهدوا الطريق للمشروع الصهيوني الذي شاركهم أصلًا في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وعلى الخلافة والمشروع الإسلامي. ومع ذلك صفق هؤلاء البعض لهؤلاء المنقلبين على السلطان والخلافة والمشروع الإسلامي، علمًا أنه كان من ضمن هؤلاء المنقلبين "يهود الدونمة" وزعاماتهم أمثال "قرة صو". وعلمًا أن هؤلاء المنقلبين دعموا تكوين إسرائيل على حساب نكبة فلسطين. ومع ذلك صفق لهم هؤلاء البعض، لأنهم حاربوا المشروع الإسلامي، وكأن من يحارب المشروع الإسلامي يجوز له أن يفعل بعد ذلك ما يشاء؛ حتى لو ساهم في نكبة فلسطين!!
ولا أدري هل هو عن جهل أم عن سبق إصرار. فإن هؤلاء البعض يحاولون أن يحمّلوا الخلافة العثمانية تبعات دعم هؤلاء الانقلابيين: "الاتحاد والترقي" و "تركيا الفتاة" و"مصطفى كمال أتاتورك" للمشروع الصهيوني، وكأن هؤلاء الانقلابيين امتداد لسيرة الخلافة العثمانية، علمًا أنهم انقلبوا عليها وكانوا أول المحاربين لها، ولا يزال هؤلاء البعض أول المصفقين لهم!!
قد يقول البعض: نحن في متاهة. وأنا بدوري أقول: نحن لسنا في متاهة، والأمور واضحة جدًا، وكل ما نحتاج إليه هو التزود بالذاكرة العادلة!! ولذلك نرفض سلفًا منطق هذا البعض الذي قال ذات يوم: لأنه الاتحاد السوفياتي فيحق له أن يفعل ما يشاء، حتى لو ساهم في نكبة فلسطين، وكان أول المعترفين بالمؤسسة الإسرائيلية، ولأنه السلاح التشيكي المصنع في حمى حلف الاتحاد السوفياتي؛ فيحق له أن يفعل ما يشاء، حتى لو ساهم في إزهاق أرواح شعبنا الفلسطيني وإراقة دمائهم، ولأنهم الانقلابيون؛ "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" و"مصطفى كمال أتاتورك" وأذنابهم، فيحق لهم أن يفعلوا ما يشاءون حتى لو دعموا تكوين المشروع الصهيوني وساهموا في نكبة فلسطين؛ لأنهم حاربوا السلطان والخلافة والمشروع الإسلامي!! ولذلك أقول ناصحًا للأرمن: إن الذين يحاولون التظاهر بنصرتكم اليوم وشن هجوم على تركيا اليوم ليس هدفهم نصرتكم؛ بل هدفهم استغلالكم من أجل إفشال المشروع النهضوي الراشد الذي تتبناه اليوم تركيا، والذي يستند إلى رؤية إسلامية، من أجل مواصلتهم إعلان الحرب على المشروع الإسلامي، حتى لو كان في بداياته!! سيما وأن أجدادكم الأرمن قد عاشوا مع المحيط المسلم في محبة وانسجام ووئام لأكثر من ألف عام، وسيما أن الوثائق التاريخية تؤكد عدم تعمّد الحكومة العثمانية بعد 24 نيسان من عام 1915 وقوع الأحداث المأساوية التي وقعت على بعض أجدادكم، بل لجأت الحكومة العثمانية في حينه إلى معاقبة المتورطين في أية انتهاكات ضد بعض أجدادكم، وجرى إعدام المتورطين في الضلوع في تلك الأحداث المأساوية، سيما وأن بعض المنفلتين من الأرمن ارتكبوا مجازر ضد المدنيين الأتراك، ومع ذلك ها هو الرئيس التركي "أردوغان" قد أعرب عن حزنه على ضحايا الحرب العالمية الأولى من الأرمن، وها هي تركيا تصف اليوم ما وقع في تلك الحرب بالمأساة لكلا الطرفين التركي والأرمني، وها هي تدعو إلى تناول الملف بعيدًا عن الصراعات السياسية وحل القضية عبر منظور "الذاكرة العادلة"، الذي يعني الاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف، وها هي تقترح إجراء أبحاث حول أحداث 1915 في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمنية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراكا وأرمنيين وخبراء دوليين!!
وأما الذين يَدَّعون مناصرة الأرمن من قادة المشروع الصهيوني فأقول لهم: حقًا إنكم لا تخجلون من أنفسكم، فأنتم من أوقع المجازر على شعبنا الفلسطيني، وأنتم من يحاول اليوم استغلال مشاعر الأرمن لمحاربة المشروع النهضوي الراشد في تركيا. وكذلك أقول لبعض الأقلام والأبواق العربية والفلسطينية التي أخذت على عاتقها محاربة المشروع الإسلامي: لا تستغلوا مشاعر الأرمن ولا تختبئوا خلف ادعاء مناصرتهم. أنتم في الحقيقة تواصلون سعيكم لمحاربة المشروع النهضوي الراشد في تركيا لأنكم ترون فيه بدايات تكوين المشروع الإسلامي، ولذلك لن تخدعونا بعد اليوم، وأرجو ألا تخدعوا الأرمن، وأرجو أن يظل الذي يحكمنا هو "الذاكرة العادلة".
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]