مرّت ثلاثةٌ وستون عامًا على نكبة شعبنا الفلسطيني،الشعب الوحيد الذي ما زال لاجئًا إن كان في بلاده (خمسٌ وعشرون بالمئة من فلسطينيي الداخل هم لاجئين،بحيث لا يُسمح لهم بالعودة إلى قراهم أو مدنهم القريبة عنهم ببضعة أمتار، ومنهم اليافيين الذين طُردوا من أحيائهم اليافاية كالمنشية والنزهة والجبلية والبلدة القديمة وإرشيد،ورُكِّزوا في حي العجمي وحُرّموا من العودة إلى أملاكهم بسبب القانون العنصري الذي سُن عام 1949 في الكنيست الإسرائيلي والذي ينص أن كل من كان خارج مُلكهِ أثناء العد السكاني قد خسرهُ!) أو في الشتات وبشكل خاص في الدول العربية. مضت هذه الفترة وما زلنا نطالب بحقوقنا وحقوق إخواننا وأخواتنا اللاجئين واللاجئات،لأن مطالبنا كانت وما زالت وستبقى صادقة بالرغم من التعنّت الإسرائيلي والمجتمع الدولي برئاسة "الويلات" المتحدة الأميركية،الداعمة الرئيسيّة لوجود هذا الكيان الغاصب على بلادنا.
ولكنّنا نجد للأسف في مجتمعنا العربي في يافا وباقي مدننا وقرانا الفلسطينيّة داخل الخط الأخضر،نجد تعنّت من النوع المشابه للتعنّت الإسرائيلي،ألا وهو عدم الإهتمام بالقضية الفلسطينيّة من قِبل "المتعنّتين البرغماتييّن" من أبناء شعبنا الذين يريدون التقدّم بالحياة (وكأننا لا نود التقدم بالحياة) وعدم الدخول في أمور وقضايا "مؤلمة وخطرة وغير مفيدة" بحد قولهم،وكأنّهم قدموا من السويد أو أستراليا وليس العكس الذي نعرفه وهو قدوم إسرائيل علينا. أي أنّنا هنا أصحاب هذه البلاد،لذلك من واجبنا أن لا ننسى ماحدث في تاريخنا الحديث.
الوضع في يافا إختلف قليلاً، بحيث شهدت المدينة ولأول مرّة منذ النكبة مسيرةٌ جماهيريةٌ لذكرى النكبة تحت إسم "عائد إلى يافا"،المسيرة التي وضعت يافا على الخارطة من خلال التغطية الإعلامية العالمية والقطرية والمحلية،كما وأحيّت هذه المسيرة من جديد قضية اللاجئين الفلسطينييّن الذين هُجّروا وطُردوا ونزحوا عام النكبة قبل أكثر من ستةِ عقودٍ، هذه المسيرة أربكت الكيان الصهيوني الذي إعتقد أن "عرب إسرائيل" تم تدجينهم بالكامل وأصبحوا إسرائيلييّن يريدون العيش تحت جناح هذا الكيان "الديمقراطي" ليبيعوا الفول والحمص فقط لا غير،هذا الكيان "الديمقراطي" الذي يفتخر بكونه ديمقراطيًا في واحة الدكتاتوريات العربية (الأمر الذي يتغيّر في هذه الأيام من بعد صعود الثورات العربية وبشكل خاص في تونس ومصر اللواتي سيتحولن إلى دول ديمقراطية)، ولكن الجميع يعلم ويدرك مدى الديمقراطية وحدودها في دولة تريد أن تبقى يهودية بالقوى،متجاهلةً المطالب الفلسطينيّة الصريحة في حل الصراع نهائيًا،ألا وهو حلّ الدولة الواحدة للشعبين.
هذه المسيرة التي شارك بها مئات اليافييّن والفلسطينييّن من قرانا ومدننا،بالإضافة إلى مسيرة العودة التي تقام سنويًا في القرى الفلسطينيّة المهجّرة،هي إثبات لوجود تنشئة وطنية في مجتمعنا العربي الفلسطيني بالرغم من محاولات طمس معالمنا ومحو تاريخنا وحتى تغيير الحقائق وقلبها علينا وإتهامنا بالمسؤولية التامة على نكبتنا وحتى على نكبة اليهود في أوروبا بسبب تحالف الشيخ أمين الحسيني مع أدولف هتلر آنذاك خلال الحرب العالمية الثانية الدامية.
لا شك أن مدينتنا الحبيبة يافا بحاجة ماسة إلى تنشئة الوطنية في العديد من الأطر الفعّالة في البلدة،وذلك بسبب منع إدخال أي رابط وطني إلى مدارسنا العربيّة الأهليّة والحكوميّة على حد سواء وبسبب التعنّت من قبل أعداء الوطنية الذين ينتهزون كل فرصة لضرب القوة الوطنية بإتهامها بالضعف وإستعمال الشعارات الرنّانة فقط لا غير،لهؤلاء الإنهزامييّن أقول أن الوطنيّة هي أسمى من أن تتلوث بتعليقاتكم وحروبكم الخسيسة والفاشلة ضدها،لأن أعداء الوطنية هم شبه أعداء لأنهم يحققون أمنية الدولة العبرية التي تتلذذ من وجود صراعات داخليّة في مجتمعنا.
تنشئة الوطنية هي الضمان وبوليسة التأمين لبناء مجتمع متنّور وغير متخلّف وطائفي،لأنه في نهاية المطاف جميعنا فلسطينييّن،شئنا ذلك أم أبيّنا،وجميعنا أبناء وأحفاد وأقارب للاجئين فلسطينيين،والنكبة حلّت على المسلم والمسيحيّ ولم تفصح عن أي عائلة فلسطينيّة بإستثناء بعض العائلات التي تعاونت وتآمرت مع العدو الصهيوني قبل وأثناء الحرب ولكن عددها قليل،لذلك لا يوجد مفرٌّ من تنشئة الوطنيّة في بلدتنا التي كانت عاصمة فلسطين الغير رسميّة لكونها المركز الثقافي والتربوي والرياضي والإقتصادي والتجاري.
من المؤلم أن نجد مدارسنا مقيّدة من قبل وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة،ولكن حتى قانون المعارف يسمح للمدارس العربيّة أن تُعلّم أبناءها عن تاريخ شعبه وحضارته،ولكن للأسف لا يطبّق هذا البند في معظم مدارسنا وفي أحسن الحالات يقام يوم التراث العربي لمرةٍ واحدةٍ في السنة،الأمر الغير كافي لأنه بإمكان مربيّي الصفوف أن يشدّدوا على وطنية التنشئة من أجل توعية أبناءها وخلق جيلٌ صاعدٌ وواعٍ لقضيّته.
مثال آخر لوطنية التنشئة هو إدخال الوطنية لروضاتنا وحضاناتنا العربيّة الخاصّة،بحيث من السهل أن تُزرع رموزًا وطنيةً للأطفال الذين يُعتبرون ورقةٌ بيضاء نستطيع أن نملأها كيفما نشاء. حاليًّا نجد فقط حضانة "الرابطة" التي تعتني بهذا الأمر،بينما تهتم باقي الحضانات بالتربية الروتينيّة فقط لا غير.
الصحوة الأخيرة التي تشهدها مدينة يافا لم تأت من فراغٍ بل أتت من مجهودِ مجموعاتٍ وأفرادٍ وطنيةٍ تهمّها قضيّة يافا وفلسطين على حد سواء، الخلفيّة الوطنيّة لهذه الأفراد والمجموعات هي التي أيقظت الشارع العربي اليافي المنهزم والملهي في شؤون الحياة المختلفة وبعضه غارقٌ في حياة الإجرام اللامتناهية.
من إفرازات الصحوة الوطنيّة التي نشهدها مؤخرًا في يافا هي "حركة الشبيبة اليافيّة" التي أفتخر أن أكون عضوًا فعالأً فيها منذ تأسيسها قبل عام،هذه الحركة وضعت لنفسها خمسةٌ أهدافٍ وأهمّها تعزيز الهوية الوطنيّة وتعزيز اللغة العربيّة المتراجعة عند أهالي يافا كبارً وصغارًا والمساواة بين المرأة والرجل (باقي الهدفان هما: التوجيه المهني والدراسي للطلاب الثانوييّن العرب وزرع روح التطوّع في البلد) ومنذ تأسيسها وحتى اليوم إستطاعت أن تعمل على هذه القضايا وفرضت نفسها على الساحة اليافيّة وما زال مشوارها في أوله لأن تنشئة الوطنيّة هي عملية هامّة تحتاج إلى إستمراريّة.
جميع اليافييّن شهدوا أيضًا تغييرًا جديدًا عند الكشّافات العربية،بحيث شاهدنا الكشّاف الأرثوذكسي يشارك الكشّاف الإسلامي في عيد الأضحى الأخير،وقبل بضعة أسابيع شارك الكشّاف الإسلامي بإحتفالات عيد الفصح مع الكشّاف الأرثوذكسي، الأمر الذي أثّر في أعماقنا وخلق جوًّا جديدًا-قديمًا، لأنّه قبل النكبة كان هذا لأمر طبيعيٌ وأساسيٌ وفقط بعد النكبة تم تقسيمنا إلى مسلم ومسيحي من أجل السيطرة علينا بطريقةٍ أسهل. نأمل أن تستمر هذه الإستعراضات الكشفيّة المشتركة من أجل تعزيز وتوطيد العلاقات بين الشعب الواحد الذي ما زال يعيش الإنقسام ومرتاح لذلك وكأنّنا أعداءٌ ولسنا أمةٌ عربيةٌ واحدةٌ.
هذه الأطُر تستطيع أن تعمل على تنشئة الوطنيّة (مع أن الكشّافات ما زالت بعيدة عن ذلك بسبب الرقابة من قبل منظمة الكشاف العربية وتواطىء رئيسها الذي "طمأن" قبل عدة سنوات المسؤولين الإسرائيليين عن حركات الكشّاف القطرية أن الشباب العرب في الكشّافات لا يتجهون نحو الوطنيّة ولا يطالبون بالعودة!) وبشكل خاص الأطر الوطنيّة كحركة الشبيبة اليافيّة،كما وتستطيع مدارسنا وروضاتنا أن تعمل على وطنيّة التنشئة من أجل بناء يافا جديدة،وطنيّة،حُرّة وفلسطينيّة،لأنّه ولّى زمن الخيانة والمحسوبيّة والبلطجيّة والطائفيّة والأميّة والعائليّة والعشائريّة والإنفراديّة والإنهزاميّة،ولّى زمانكم يا علوج،فالأمسُ لنا واليومُ لنا وغدًا لنا من أجل أن يعيش أبناءنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا أحرارًا في وطننا.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]