ما يميز الحركة الإسلامية، عن غيرها من مدارس الصحوة الإسلامية، أنها تتبنى منهجا تربويا شاملا وواحدا؛ يضم الجانب العقائدي والفكري والفقهي والسياسي والروحي والقراءة الواحدة للتاريخ والحاضر والمستقبل، ويستقي كل ذلك من القرآن والسنة، ثم من المنهج الفقهي للحركة الإسلامية، وأدبيات الحركة الإسلامية العالمية، وأدبيات الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني .
وتهدف الحركة الإسلامية من وراء ذلك بناء أبناء الحركة الإسلامية – ذكورا وإناثا – وصياغة الفهم الإسلامي الواحد، والسمت الإسلامي الواحد، والرؤية الإسلامية الواحدة، والالتزام الإسلامي الواحد، والسلوك الإسلامي الواحد لدى كل أبناء الحركة الإسلامية ذكورا وإناثا. وهذا ما يحقق التجانس في الأداء الداخلي والخارجي للحركة الإسلامية؛ فكلهم يدينون بفهم عقائدي واحد، وفكر إسلامي واحد ومنهج فقهي واحد، ورؤية سياسية واحدة، ومدرسة روحية واحدة، وقراءة واحدة للتاريخ والحاضر والمستقبل. وهذا ما يعين على وحدة كلمة الحركة الإسلامية ووحدة صفها ومواقفها وتفاعلها مع الواقع المحلي والفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني. وإلا لو لم تكن الحركة الإسلامية كذلك لتحولت إلى مجرد تجمع أفراد ليس إلا، وكلٌ فيهم يغني على ليلاه ويقول: أنا الحركة الإسلامية في فهمها العقائدي والفكري والفقهي والسياسي والروحي والقراءة الواحدة للتاريخ والحاضر والمستقبل. ومما لا شك فيه سيؤدي ذلك إلى تفكك الحركة الإسلامية، وستصبح مئات الحركات الإسلامية، بل لن تصلح عند ذلك أن يطلق عليها حركة إسلامية، لأنها ستصبح أشبه ما يكون بمئات أو آلاف المسلمين جمعهم درس إسلامي أو صلاة جمعة أو موسم حج أو مجلس ذكر، ويوشكون أن يتفرقوا بعد ذلك كل إلى بيته دون رباط حركي واحد يجمعهم.
ولذلك فإن ضرورة وجود منهج تربوي شامل وواحد هو كضرورة الروح للجسد، وهذا يعني أن ما يميز قوة الحركة الإسلامية في الأساس هو قوة منهجها التربوي الشامل والواحد، وقوة الالتزام بهذا المنهج، وبعد ذلك يأتي السؤال عن عدد أبناء الحركة الإسلامية وعن عدد مؤسساتها وعن نشاطها الجماهيري بكل أبعاده، وعن تواصلها المحلي والعالمي، وعن حضورها الإعلامي. وإلا لو أبدعت الحركة الإسلامية بكل هذه العناوين وأسقطت من حساباتها ضرورة وجود منهج تربوي شامل وواحد فهي ليست حركة إسلامية. فقد تكون حزبا إسلاميا أو جبهة إسلامية أو هيئة شعبية إسلامية أو جمعية خيرية إسلامية، وليست حركة إسلامية. وهذا يعني أن هوية الحركة الإسلامية هو منهجها التربوي الشامل والواحد وضرورة الالتزام بهذا المنهج وإلا فهي حركة بلا هوية. وهذا يعني أن قابلية الحركة الإسلامية للنمو الحقيقي والاتساع الجاد والزيادة في عددها وعدتها ودورها وكيفها وكمها لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تحقق هذا الأصل الثابت؛ ألا وهو المنهج التربوي الشامل والواحد، وإلا فأي نمو واتساع وزيادة للحركة الإسلامية دون وجود لهذا المنهج؟ فهي بدونه مجرد ظاهرة عابرة لن تدوم مهما كانت منجزاتها مفرحة. ولذلك فإن الحركة الإسلامية مطالبة أن تنفق معظم جهدها ووقتها، وأن تجند معظم قدرات العاملين فيها في تحقيق وتعميق وإفشاء المنهج التربوي الشامل والواحد بين كل أبنائها. وهي مطالبة ألا تستثني أحدا من أبنائها من هذا المنهج، مهما حمل من الشهادات، ومهما تقلد من المناصب، ومهما قدم من التضحيات، ومهما مضى عليه من العمر. فلا يوجد شيء اسمه فلان فوق التربية، ولا فلان بلغ اليقين وأنهى مرحلة التربية، بل لا بد أن يلتزم كل واحد من أبناء الحركة الإسلامية بهذا المنهج التربوي من المهد إلى اللحد ما دام في الحركة الإسلامية، وإلا فإن وجود ظاهرة فلان فوق التربية أو فلان أنهى مرحلة التربية، أو فلان تقلد المسؤوليات قبل الحد الضروري من التربية؛ إن كل ذلك سيحدث بؤرا من العيوب في جسد الحركة الإسلامية قابلة أن تتسع ورما وألما مع الأيام. ولذلك أحسنت الحركة الإسلامية صنعا عندما أقامت مكتبا باسم (مكتب الدعوة والتربية)، لحمل كل أعباء المنهج التربوي الشامل والواحد للحركة الإسلامية. وأحسنت الحركة الإسلامية صنعا عندما وضعت جدولا للمحاسبة لدوام مراقبة مجريات هذا المنهج التربوي في مسيرة أبنائها. وأحسنت صنعا عندما اشترطت سلفا على كل من يحق له أن يصوت أو يترشح في انتخابات الحركة الإسلامية أن يتحلى بحد واضح من التربية وفق هذا المنهج التربوي. وأحسنت صنعا عندما بدأت تصارح من وجبت مصارحته أنه لا يوجد شيء اسمه الالتزام بالحركة الإسلامية دون الالتزام بمنهجها التربوي الشامل والواحد، وأن عدم الالتزام بهذا المنهج أو التعثر بالالتزام به ينقل الفرد من كونه ابنا للحركة الإسلامية إلى نصير لها، نحبه ونوده ونتواصل معه، ولكن لا نرى فيه عضوا فيها يتمتع بالواجبات والحقوق التي يتمتع بها كل أبناء الحركة الإسلامية الوفيين لها بعامة، ولمنهجها التربوي الشامل والواحد بخاصة.
ولو نظرنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن الكثير من المفكرين والعلماء والخطباء والدعاة قد أبلى كل منهم في دفاعه عن الإسلام ونصرة الإسلام بلاء حسنا، ثم لما انتقلوا إلى رحمة الله تعالى لم يبق من آثارهم وتضحياتهم الغالية والنفيسة إلا ما ألـَّفوه من كتب أو سجلوه من خطب ودروس ومواعظ، لماذا؟ لأن جهودهم لنصرة المشروع الإسلامي ظلت جهودا فردية مربوطة بأشخاصهم، فلما ماتوا تحولت هذه الجهود وأصبحت تراثا فكريا وفقهيا ورّثوه لنا جزاهم الله خيرا. ولأنهم لم يتمسكوا، خلال بذل جهودهم المباركة لنصرة الإسلام، بالمنهج التربوي الشامل والواحد؛ لم يبق بعدهم من يواصل دورهم النفيس. وهناك الكثيرون مَن هم مِن هذه الصفوة قد بذلوا أعمارهم لنصرة الإسلام وكتبوا عن الإسلام ودعوا إليه ودافعوا عنه، وها هم بعد موتهم أورثونا مكتبة فقهية وفكرية كمرجعية ثرية وراشدة لكل من يريد أن ينصر الإسلام أو يتعرف عليه. وفي المقابل ها هو الإمام حسن البنا، الذي أرسى منهجا تربويا شاملا وواحدا أقام منه الحركة الإسلامية العالمية، ها هو يترك خلفه بعد موته مئات الآلاف ممن واصلوا التزامهم بالحركة الإسلامية ودوام مناصرتها والسمع والطاعة لمسؤوليها، ثم ظلت هذه الحركة تزداد يوما بعد يوم!! وتقوى يوما بعد يوم. لماذا؟ لأن الإمام حسن البنا جمع بين هؤلاء في دائرة منهج الحركة الإسلامية التربوي الشامل والواحد، وبذلك وجد من يكمل نصرة المشروع الإسلامي وفق منهج الحركة الإسلامية بكل أبعاده بعد موته، وبذلك حرر الحركة الإسلامية من الارتباط بشخصه، وأبقاها مربوطة بمنهج يقوم على العمل الجماعي وليس العمل الفردي، ويصلح أن ينمو مع الأيام وأن تتوارثه أجيال الحركة الإسلامية جيلا بعد جيل، وأن يصمد في وجه الصعاب التي قد يتعرض لها مهما تواصلت ومهما كانت شديدة. وهذا ما كان حال الحركة الإسلامية التي أسسها الإمام حسن البنا؛ حيث امتدت بعد موته، وتواصل نموها، وصمدت في كل محطات ابتلائها، واشتد عودها قوة بعد كل ابتلاء. والسبب في كل ذلك- بعد حفظ الله تعالى وفضله- يرجع إلى أنها قامت على منهج تربوي شامل وواحد. وهذا هو المرجو لمسيرة الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني. لذلك يجب عليها أن تعض على منهجها التربوي الشامل والواحد بنواجذها، لأن صبغة الشمول فيه ستؤهله أن يكون مصنعا لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في نصرة المشروع الإسلامي، يجمعون بين العلم والعمل، وبين الزاد الفكري والزاد الروحي، وبين العبادة والمعاملة، وبين الفهم السياسي والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. ويوم أن يتجذر المنهج التربوي الشامل والواحد في مسيرة الحركة الإسلامية فما أسهل عليها أن تحسن استيعاب الناس على قاعدة (الدين المعاملة)! وما أسهل عليها أن تنجح في بناء الحياة الإسلامية في مسيرة جماهيرنا إلى جانب بناء الحياة الحركية في مسيرتها! وما أسهل عليها أن ترسخ في خطابها - خطاب الوسطية- وأن تجمع الناس عليه بعيدا عن أي غلو ذميم! وما أسهل عليها أن تتقن القيام بعشرات المبادرات التي من شأنها حمل هموم جماهيرنا في الداخل الفلسطيني!! تقوم وفق دور شمولي مؤسساتي وليس وفق دور شخصي!! وما أسهل عليها أن تعمق في مسيرتها مبدأ تداول المسؤولية وفق نظامها الداخلي!! وما أسهل عليها أن تتقن بعد ذلك فن الحفاظ على السلم الاجتماعي في الداخل الفلسطيني، إلى جانب فن التواصل مع البعد الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني!!
وحتى تحسن الحركة الإسلامية ضبط كل مسيرتها ومسيرة أفرادها ومكاتبها وهيئاتها ولجانها وفق منهجها التربوي الشامل والواحد، لا بد لها أن تتعامل مع أبنائها بلغة الدفء لا بلغة التنفير، وبنفسية "الحرص عليهم" لا بنفسية الاستغناء عنهم، وأن تحسن ترسيخ مبدأ "ولا تنسوا الفضل بينكم" مع الثابت فيهم والمتعثر، وألا يلاحظوا عليها في يوم من الأيام كأن هناك بعدا شخصيا بينها وبنيهم، يدفعها أن تحاسب فلانا وتغض الطرف عن فلان، أو أن تعاقب فلانا وتسامح فلانا، أو أن تتبع عورة فلان وتستر على فلان. فما أصعب النفوس، وما أصعب القدرة على فهمها وحسن توجيهها وتصويبها ونقدها ونصحها! ولعل نقل جبل أصعب من أن يقال لواحدة من هذه النفوس: "أنت مخطئة". ولذلك لم يحسن التعامل مع النفوس إلا الأنبياء، ثم لن يحسن التعامل مع النفوس إلا ورثة الأنبياء. فأسأل الله تعالى أن يرزق الحركة الإسلامية صفوة - مهما قلت- تحسن أن تتعامل مع النفوس، لأن المطلوب من الحركة الإسلامية لا أن تحسن تبيان أخطاء هذه النفوس وإقامة الحجة عليها، بل أن تحسن تغيير هذه النفوس وإن تراكمت أخطاؤها، كحرص الطبيب على علاج مريضه، وكحرص الأستاذ على نجاح تلميذه، وكحرص الأب على تربية ابنه، وهو أمر عظيم ومنهج تربوي عظيم لا يعين عليه إلا الله تعالى.
ولتحذر الحركة الإسلامية أن تدعو الناس إلى ما ليس فيها؛ كأن تدعوهم إلى التحابّ والتراحم وأدب المعاملة، وأن يتسلل إلى داخلها خلاف ذلك!! ولتحذر الحركة الإسلامية أن تنهى الناس عن عيوب، وأن تبرز هذه العيوب في أجواء التعامل بين أبنائها؛ كأن تدعو الناس إلى نبذ التكالب على زينة الدنيا والحرص على جمع المال وحب المنصب واتباع الهوى، وأن يدب دبيب هذه الأمراض في داخل صفها. ولتحذر الحركة الإسلامية أن تحذّر الناس من منزلقات وأن تتورط فيها، كأن تحذر الناس من آفة الحزبية والتعصب للشخص أو للحمولة أو للطائفة، وأن تنجر إلى ذلك مع بعض الناس أو مع بعض الأحزاب والحركات بعامة ومدارس الصحوة الإسلامية بخاصة، أو مع بعض طوائف مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. فالمطلوب منها ليس كما المطلوب من غيرها، لأنها ليست كغيرها، فهي الوحيدة التي ينظر إليها الناس نظرة أمل، وينتظرون أن يروا فيها صدق القول والعمل وحسن العبادة والخلق وصفاء السياسة والمعاملة. ولذلك هي مرصودة من قبل الناس ومراقبة ومعدود عليها ما يصدر عنها من أقوال وأفعال ومواقف. ولذلك هي مطالبة بسعة الصدر واستقبال النقد من الآخر، بقناعة لا ريب فيها أن الإسلام معصوم، ولكن الحركة الإسلامية غير معصومة، ومن الشجاعة أن تملك الجرأة إذا أخطأت أن تقول: أخطأت! وما أجمل أن تتبنى قول الفاروق عمر رضي الله عنه "رحم الله امرئ أهدى إلي عيوبي"، وبذلك ستألف الحركة الإسلامية وستؤلف، وستصنع حاضنة شعبية للمشروع الإسلامي.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]