* يوم أمس الخميس 1/10/2015 كانت الذكرى السنوية الخامسة عشرة لانتفاضة الأقصى، هذه الانتفاضة التي اندلعت وانطلقت شرارتها الأولى يوم 28/9/2000 إثر اقتحام شارون (رئيس حزب الليكود) لساحات المسجد الأقصى وتدنيسه له بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي. ولأن حصيلة ومجموع الشهداء الذين قتلوا من أبناء الداخل الفلسطيني كانوا ثلاثة عشر شهيدا هم: وسام يزبك وعمر عكاوي وإياد لوابنة من الناصرة، ومحمد خمايسي من كفركنا، ورامز بشناق من كفرمندا، ووليد أبو صالح وعماد غنايم من سخنين، وأسيل عاصلة وعلاء نصار من عرابة، ورامي غرة من جت وأحمد صيام من معاوية، ومحمد جبارين من أم الفحم ومصلح أبو جراد من رفح، والذي استشهد في أم الفحم، ولأن هذه الكوكبة من الشهداء قد نالها شرف الاستشهاد نصرة للأقصى على مدار عشرة أيام، حيث المواجهات كانت تتسع، فقد اتفق على أن يكون يوم 1/10 من كل عام يوم ذكرى شهداء هبة القدس والأقصى من أبناء الداخل الفلسطيني.
* وإذا كان يوم أمس الخميس هو يوم الذكرى الـ 15 لشهداء هبة الأقصى 1/10/2000 فإن يوم الخميس القادم 8/10 سيكون يوم الذكرى الـ 25 لمجزرة الأقصى التي وقعت يوم 8/10/1990 والتي قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي في ساحات الأقصى خلالها 22 شهيدا فلسطينيا، كان أحدهم الشهيد عدنان خلف؛ ابن مدينة طمرة وابن الداخل الفلسطيني، إنه يوم 8/10/1990 وإنه يوم 1/10/2000 وإنه يوم 28/9/2015، يوم الإثنين الأخير، الذي اقتحمت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي وجنودها من كافة التشكيلات القتالية ساحات المسجد الأقصى، وأطلقت القنابل الصوتية والدخانية والرصاص المطاطي، يتقدمها الدرع المحصن المتحرك ليسهل عليها اقتحام المسجد من حجارة المدافعين عنه، وليكون المسجد الأقصى وساحاته على موعد جديد من عطاء شعبنا وأهلنا من القدس والداخل الفلسطيني، ولتسيل دماؤهم مجددا في ساحاته وعند محاريبه في موسم جديد من مواسم ضريبة العطاء والفداء للمسجد الأقصى المبارك.
* وإذا كانت مجزرة الأقصى يوم 8/10/1990 قد خفت صداها سريعا وتلاشى مع دوي وهدير طائرات ومدافع التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لضرب العراق وإخراج جيشه من الكويت، التي كان صدام حسين قد دخلها يوم 2/8/1990، ففي غمرة انشغال الجميع بما فعله صدام حسين، وبداية التحركات الدبلوماسية والعسكرية فقد وقعت مجزرة الأقصى يوم 8/10/1990، وسرعان ما طويت صفحتها مع فتح صفحات كثيرة من المآسي والويلات حلت بالكويت وحلت بالعراق ولا تزال تحل على أمتنا.
* واليوم ومع استمرار المجزرة والهجمة المتواصلة على المسجد الأقصى المبارك من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فإن الهدف منها واضح وجلي؛ إنه السعي إلى التقسيم الزماني -وإلا فالمكاني- للمسجد الأقصى تمهيدا للهدف النهائي والجريمة النكراء بإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض قبة الصخرة المشرفة في ساحات المسجد الأقصى المبارك.
تأتي هذه الهجمة ومن أبرز ملامحها الضرب والتنكيل والاعتقال والسحل ونزع الحجاب عن رؤوس المرابطات، وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتحام المسجد بالأحذية وتمزيق المصاحف، وتقييد سن المصلين، وإغلاق المسجد في أوقات كثيرة، وأوامر الإبعاد عن القدس والأقصى، وبناء الكنس فوق الأرض وتحت الأرض، ويصاحب هذا كله إغلاق المؤسسات والمحاكمات الظالمة، ليتوج كل ذلك بالدماء الطاهرة تسيل من أجساد ورؤوس المرابطين والمرابطات والمصلين والمصليات في ساحات المسجد الأقصى، حيث المشهد يتكرر مع كل اقتحام وكل تدنيس.
* ولكن وكما أريد لمجزرة الأقصى عام 1990 أن تنطوي صفحتها وتصمت وتُنسى عبر دوي وهدير آلة الحرب والحراك السياسي للتحالف الدولي لضرب العراق، فإن نفس السيناريو يمارس اليوم؛ حيث يراد للهجمة الإسرائيلية الصهيونية على الأقصى أن تنطوي صفحتها وتنسى ولا يتوقف عندها ولا يُتنبه لها؛ حيث الانشغال بدوي وهدير طائرات ومدافع التحالف العربي والدولي ضد تنظيم "داعش" –ظاهريا- في العراق وسوريا، والتحالف العربي الخليجي ضد جماعة الحوثيين في اليمن.
لكن الأخطر في الحقيقة هو دوي الطائرات ورصاص الثورات المضادة التي قادها الفاسدون والمجرمون من الحكام والطواغيت الذين أمعنوا في شعوبهم قتلا وذبحا وتهجيرا؛ هذا حال مصر وسوريا والعراق وليبيا.
* إنها حكومة "نتنياهو"، وقد نظرت حولها لتجد السيسي في مصر ينقلب على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، ويمعن في شعب مصر ذبحا وسجنا وقمعا، ولتجد بشار الأسد في سوريا يحرق ويدمر ويشرد مدن سوريا وأهلها، وهكذا حال العراق واليمن وليبيا، ومَن لا تُدمَّر بلاده فإنه يشارك في تدمير بلاد دول أخرى.
وإنها حكومة "نتنياهو" وقد نظرت حولها لتجد الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" يقمع شعبه ويلاحق كل من يخالفه، بل إنه الذي سخر أجهزته الأمنية لخدمة الاحتلال فيما سمي بالتنسيق الأمني، الذي وصل إلى حد اشتراك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية في تبادل المعلومات والمشاركة في قمع كل تحرك فلسطيني ضد الاحتلال.
إنها إذن المجزرة التي ترتكب هذه الأيام في حق المسجد الأقصى المبارك والاستهداف والتهويد، بينما الأنظمة تقمع الشعوب، والشعوب ترزح تحت الظلم والجهل أو الفقر، وتتشكل تحالفات دولية ظاهرها مقاتلة "داعش"، وحقيقتها مقاتلة كل الأصوات الصادقة والخيرة التي انطلقت تدعو إلى العودة إلى الهوية الإسلامية الصافية.
* في أجواء مجزرة الأقصى 8/10/1990 كانت سوريا ضد العراق، والعراق ضد إيران، وإيران ضد أمريكا، وأمريكا ضد روسيا. ونعيش هذه الأيام مع أجواء جريمة استهداف المسجد الأقصى المبارك، حيث سوريا والعراق وإيران وأمريكا وروسيا، كل هؤلاء الآن في تحالف واحد، وهذا التحالف ينسق مع المؤسسة الاسرائيلية (لقاء رئيس روسيا مع "نتنياهو"، ولقاء وزير خارجية أمريكا مع وزير خارجية إيران، ولقاء وزير خارجية أمريكا مع وزير خارجية روسيا).
إن هذا التحالف الدولي الناشئ يجمع ضمن مركباته أعداء الأمس، لنجد أنفسنا أمام مشهد أكثر وضوحا حول طبيعة الصراع؛ إنه صراع ديني في أجلى صوره وأشكاله. إن زخم التحالفات العالمية الناشئة، وإن الدفع بالأسلحة والجيوش إلى المنطقة، وإقامة القواعد العسكرية، لَيؤكد أن المعركة تتجاوز "داعش" أو ما تسمى بالدولة الإسلامية؛ حيث الحرب هي على الأمة الإسلامية كلها وعلى العقيدة الإسلامية.
* لقد تظاهروا أنهم ضد الانقلاب الدموي في مصر (وأقصد هنا الغرب وأمريكا) وها هم الآن يدعمون الانقلاب سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وتظاهروا أنهم ضد بشار الأسد وطالبوا بإسقاطه، وها هم الآن ينقلبون على مواقفهم ليتحول بشار إلى شريك أساس، بل إلى أحد عناصر الاستقرار في سوريا، بل والمنطقة كلها.
* لقد قامت الدنيا ولم تقعد عندما استهدفت طالبان في أفغانستان تمثالي بوذا، واعتبرها الناقدون من معالم وآثار الحضارة الإنسانية التي يجب الحفاظ عليها، رغم عدم وجود أي بوذي في أفغانستان.
ما بال هذا الغرب بخاصة، وكل العالم، لا يتحرك لاستهداف المسجد الأقصى المبارك؟ حيث علاقته الدينية بثلاثة عشر مليون فلسطيني وأربعمائة مليون عربي وألف وستمائة مليون مسلم؟
ما بالهم لا يبالون بما تفعله المؤسسة الإسرائيلية من تدمير ممنهج طال البنيان وطال الإنسان في المسجد الأقصى المبارك؟ وما بالهم ورغم التقارير الدولية التي صدرت –والتي تثبت وجود استهداف للمسجد الأقصى عبر أعمال الحفر والتخريب التي تجري تحته– لا يزالون يصمتون صمت أهل القبور؟
* إن على هذا العالم المنافق والصامت -بل والمنخرس عن جريمة استهداف المسجد الأقصى المبارك- أن يدرك أنه ليس في مأمن من عواقب ونتائج وآثار استهداف المسجد الأقصى؛ وأن شرر هذا اللهيب ولفح ناره حتما سيصل إلى عقر بيوتهم وعواصمهم. إنهم إذا ظنوا أن للمؤسسة الإسرائيلية الحق في أن تنتهك حرمة مسجدنا وتعبث به وتدنسه، وتسعى لتحويله إلى كنيس أو هيكل مزعوم في حرب دينية سافرة، فإن هذا كذلك يخضع لمعايير المصالح الدولية والتحالفات التي ستجعلهم يندمون، ولكن حين لا ينفع الندم.
* في ذكرى مجزرة الأقصى الخامسة والعشرين 8/10/1990، وفي ذكرى انتفاضة الأقصى 1/10/2000، اللتين سقط فيهما الشهداء، وفي هذه الأيام التي تُعلَن فيها الحرب السافرة على المسجد الأقصى المبارك، وحيث الانتهاك السافر لحرمته وسيل الدماء من جراحات المصلين فيه؛ فإننا نذكر الاحتلال الإسرائيلي المتغطرس الغاشم أن مدينة القدس هذه قد تعرضت في تاريخها، ومن يوم أن بناها الكنعانيون العرب منذ خمسة آلاف سنة، إلى أربعة عشر احتلالا عسكريا كلها زالت، وهذا الاحتلال الإسرائيلي إلى زوال لا محالة.
* إنها القدس وإنه المسجد الأقصى المبارك؛ في رحابه وعند بواباته وجدرانه فاضت أرواح الصحابة الأجلاء؛ عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، وغيرهما ممن جاءوا يرابطون في ساحات الأقصى. وفي رحاب القدس وفي ساحات الأقصى سالت دماء سبعين ألفا من المسلمين عند احتلال الصليبيين لها، حيث قتلهم الصليبيون الأوروبيون الهمج، وفي رحاب القدس وساحات الأقصى سالت دماء شهداء ثورة البراق عام 1929 على يد الاحتلال الإنجليزي، قتلوهم وهم يرابطون في ساحات المسجد وعند جداره الغربي؛ حائط البراق، لما أراد الغرباء أن يجعلوه حائط مبكاهم.
وإنهم الشهداء، وما أكثرهم، سقطوا دفاعا عن المسجد الأقصى: شهداء مجزرة الأقصى 1990، ومجزرة النفق 1996، وانتفاضة الأقصى 2000، وهذا الدم الذي يسيل هذه الأيام من المرابطين والمرابطات على يد عصابات المؤسسة الإسرائيلية، وإن كانوا يسمون شرطة أو جنودا.. إنها ليست العهدة العمرية كتبت بالمداد والحبر تؤكد هوية القدس والأقصى، وإنما هي عهد الدم يسيل من الشهداء والجرحى يؤكد أن القدس للعرب، وأن الأقصى للمسلمين، وللمسلمين وحدهم، لا يشاركهم فيه أحد من الخلق أيا كان.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]