إن ما يجري في هذه الأيام من أحداث متلاحقة اتسعت حتى طالت القدس الشريف والضفة وغزة والداخل الفلسطيني؛ هذه الأحداث كانت شرارتها الأولى من المسجد الأقصى المبارك، حيث الاقتحامات والانتهاكات والتدنيس تنفذها ليس جماعات يهودية فقط، بل أحزاب وأعضاء كنيست ووزراء في حكومة "نتنياهو". هذه الأحداث التي من أبرز ملامحها هذه الهبة الشعبية الجماهيرية، التي ارتقى فيها عشرات الشهداء، وأكثر من ألف وخمسمائة جريح، ومثلهم من المعتقلين، دون أن نتجاهل سقوط العديد من القتلى والجرحى في الجانب الإسرائيلي، ولا أتردد في القول إن هذه الدماء التي سالت وما زالت تسيل من الفلسطينيين والإسرائيليين؛ يتحمل كامل المسؤولية عن سفكها رئيس الوزراء "نتنياهو" وحاشيته من الوزراء، وبطانة المستشارين الذين زينوا له أن الظرف العربي والإقليمي مناسب جدا لوضع النقاط على الحروف في تهويد المسجد الأقصى، وتقسيمه زمانيا ومكانيا، فاندفع اندفاعته المجنونة وغير المحسوبة هذه.
إن "نتنياهو" قد سمع من مستشاريه أن العرب منقسمون ومنشغلون بأنفسهم في انقلابات؛ كانقلاب السيسي في مصر، ومجازر كمجازر بشار في سوريا، وأن الفلسطينيين منشغلون بالتنسيق الأمني، وأن هناك من المسؤولين من أصبح لا يرى في موقعه السياسي والأمني إلا أقصر الطرق إلى الثراء الفاحش والغنى المشبوه، وأنها الفرصة المواتية والذهبية لفرض واقع جديد على المسجد الأقصى المبارك، حيث لن يجد من يقف في وجهه ولا من يعترض عليه، اللهم إلا بعض بيانات تافهة، وتصريحات خجولة يعلم نتنياهو أنها ليست إلا للاستهلاك الإعلامي، وإن أصحابها لسان حالهم عبر القنوات الخلفية يقولون له: لا تصدق ما تسمع منا. ولكن "نتنياهو" سمع كل هذا من مستشاريه، ولم يسمع منهم أن للمسجد الأقصى المبارك سحرا خاصا وجاذبية غريبة. إنهم لم يقولوا له إن المسجد الأقصى عقيدة وإنه آية في القرآن، وإنه مشهد من مشاهد السيرة الشريفة، بل إنه محطة من محطات المستقبل الفاصل. إنهم لم يقولوا له لجهلهم، ولم يسمع منهم لغطرسته وغروره أن هذا المسجد الذي أسري إليه برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي فتحه من الروم عمر بن الخطاب، وهو الذي حرره من الصليبيين صلاح الدين الأيوبي، وأن هذا المسجد ليس مسجدا لثلاثة عشر مليون فلسطيني، ولا لأربعمائة مليون عربي، وإنما هو مسجد ألف وستمائة مليون مسلم.
إنهم لم يسمعوا ما قاله الشاعر عن أولئك الذين يتمنون الشهادة في ساحه وعلى رحابه:
إنما الأقصى عقيدة... أين من يحمي حدوده
منح البغي حماه... لطريد وطريدة
فمتى نرجع عهد المجد حتى نعيده
شامخ الجبهة يرنو... كي يرى في الجمع صيده
زينتهم عزمات الحق والأقصى عنيده
حقله ضاق بجيش الكفر يحتاج حصيده
إنما الأقصى عقيدة ليتني كنت شهيده
إنهم لم يسمعوه، لأن العرب منشغلون والمسلمين في سكرتهم يعمهون، والفلسطينيين في ما لا يخفى عليه حالهم، وإذا به يعطي الضوء الأخضر لهذه الهجمة المسعورة على المسجد الأقصى المبارك. وإذا به اللهيب الذي لم يحسبوا حسابه، والزلزال الذي جاء بغير ميعاده، وإذا بها موجة الغضب جعلت "نتنياهو" يتصرف تصرف المذهول المصدوم.
لقد سمعنا وقرأنا بعض من يعتبرهم الإسرائيليون عقلاء، ممن يحذرون من "نتنياهو" وسياساته الهوجاء والمدمرة. ولقد قرأنا ما كتبه الكاتب الإسرائيلي "أليكس فيشمان" في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم ٢٤/١٠/٢٠١٤ لمّا اختتم مقالته بالقول: ”كنا أغبياء وما زلنا”، في إشارة إلى ما يجري حوله من متغيرات سريعة في الوطن العربي. هذه المقالة التي كانت بعنوان “العنوان على المدينة” يقصد بها مدينة القدس، حيث كانت يومها أحداث ما بعد موسم اقتحامات أعياد ٢٠١٤.
ولقد قرأنا ما قاله الكاتب "إيلي عمير"؛ مستشار "موشي ديان" للشؤون العربية، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم ٧/١١/٢٠١٤ : “إن الشعب الفلسطيني شعب شجاع يضحي من أجل قضيته، انظر كيف قاتلونا في غزة، إنهم يطورون أنفسهم، لا بد أن نقبل معهم التسوية. يكفي الاستهزاء بهم”.
ولقد قرأنا ما قاله "شفتاي شفي"؛ رئيس الموساد السابق، لصحيفة "هآرتس" في نفس تلك الفترة: “إنني قلق جدا على مستقبل المشروع الصهيوني”.
وقرأنا ما قاله "كارمي غيلون"؛ رئيس الشاباك السابق، لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم ٢٩/١١/٢٠١٤: "إن استمرار السياسة المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد كل الشعب اليهودي، وستقود إلى خراب إسرائيل".
ولقد قرأنا ما قاله "يوفال ديسكن" رئيس الشاباك السابق لصحيفة "هآرتس" قبيل الانتخابات التي أجريت في آذار ٢٠١٥ حيث قال: “سأتعامل مع أي حزب لإسقاط "نتنياهو" لأنه خطر على مستقبل الدولة”. ومثله "يعقوب بيري"، وهو رئيس جهاز الشاباك سابقا أيضا، ومثله وليس بعيدا عنه الكاتب "إيتان هابر"؛ مدير مكتب رئيس الوزراء الأسبق "إسحاق رابين"، الذي كتب مقالا في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم ٣/١٢/٢٠١٤، متحدثا عن آثار حرب غزة وعن موجة الغضب الفلسطينية التي أعقبت اقتحامات اليهود للأقصى في تشرين الأول ٢٠١٤، ومتحدثا عن انتخابات الكنيست التي كانت ستجرى يوم ١٧/٣/٢٠١٥، حتى وإن فاز فيها "نتنياهو"، وقد فاز الآن، وكان ذلك المقال تحت عنوان “وحده في مواجهة تسونامي الإسلامي”. وأما "مئير دغان"؛ رئيس جهاز الموساد السابق، فقال لصحيفة "هآرتس" يوم ٢٧/٢/٢٠١٥: “إنني أشعر بخطر على ضياع الحلم الصهيوني”. وأما "يارون لندن"؛ الصحافي الشهير في القناة الإسرائيلية العاشرة، فقد كتب في مذكراته التي صدرت في نهاية العام ٢٠١٤: “إنني أعدّ نفسي لمحادثة مع حفيدي لأصارحه أن نسبة مستقبل بقائنا في هذه الدولة لا تزيد عن ٥٠٪ ، ولمن يغضبهم هذا القول، فإنني أقول إن نسبة ٥٠٪ تعدّ نسبة جيدة“.
إن هؤلاء وغيرهم كثير من الإسرائيليين، بل من كبار العقلاء فيهم، يعلمون الحقيقة، ويعرفون تماما المخاطر المحدقة بالمشروع الصهيوني. إنها المخاطر التي لها علاقة بطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، والتي لها علاقة كذلك بما يجري في المنطقة من مخاض حتما سيكون بعده ميلاد وواقع جديد. هذا الواقع، بل وهذا المولود ليس سوى المشروع الإسلامي، والمارد الإسلامي. لكن أعظم المخاطر التي تتهدد المشروع الصهيوني ومستقبله هو استمرار التحرش والمساس وانتهاك المسجد الأقصى المبارك، الذي وصل إلى حد قول "كارمي غيلون"؛ رئيس الشاباك السابق، إن هذه السياسة المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج، وحتما ستقود إلى خراب إسرائيل.
لقد رأى "نتنياهو" بأم عينيه كيف كانت ردة الفعل الفلسطينية بعد انتهاك شارون للأقصى عام ٢٠٠٠ حيث الانتفاضة الثانية، ورأى "نتنياهو" ما كان في العام الماضي ٢٠١٤ بعد الاقتحامات والانتهاكات التي شجعها وباركها هو وحكومته، والتي أدت إلى موجة الغضب المقدسية، كانت أبرز ملامحها الدهس بالسيارات. وها هو "نتنياهو" يرى ردة الفعل نهاية عام ٢٠١٥ في أعقاب مباركته وتشجيعه ودعوته لاقتحام المسجد الأقصى، حيث هذه الغضبة التي لا تزال مستمرة، والتي برز فيها استخدام السكاكين.
لكن "نتنياهو" المغرور والمسكون بجنون العظمة، يريد -على ما يبدو- أن يسجل التاريخ أن في زمانه قد هدم الأقصى وبني الهيكل الثالث. ها هو "نتنياهو"، وبدل الاعتراف بفشل مشروعه، وبالنتائج الكارثية التي سيقود الشعب الاسرائيلي إليها، فإنه يذهب لتعليق فشله على شماعة الحركة الإسلامية، وإنها هي السبب في ما يجري، ولذلك فإنه يخطط لحظرها.
قد يقول قائل إن "نتنياهو" وحده من الجانب الإسرائيلي يتحمل مسؤولية الوضع العام واللهيب المشتعل وتسونامي، الذي راحت أمواجه تعلو وتعلو، لكنني أذهب إلى تحميل المسؤولية لهؤلاء العقلاء (ووصفهم بالعقلاء ليس مدحا لسياساتهم، فمنهم من أجرم وقتل من أبناء شعبنا الفلسطيني، وولغوا في دماء أبنائه؛ وإنما بما كانوا يشغلونه من مواقع حساسة وهامة، وبما يعرفونه أكثر من غيرهم من عاقبة سياسة نتنياهو)، فإن صمتهم واكتفاءهم بمجرد الكتابة والحديث يجعلهم شركاء في تحمل مسؤولية ما سيؤول إليه حال الشعب الإسرائيلي. إنهم صمتوا خلال خدمتهم وإشغالهم المسؤولية الرسمية، حيث يلزمهم القانون بالالتزام بالموقف السياسي للحكومة، ولكن ما إن يخرجوا إلى التقاعد فإذا بهم يتكلمون ويتكلمون.
نعم! إن عليهم أن يتكلموا، وإن عليهم بعد الكلام أن يبادروا إلى خطوات يُلجَم من خلالها هؤلاء المجانين والمغرورون، من "نتنياهو" وزمرته في الحكومة، أمثال "ريغف" و"أردان"، وغيرهما ممن يظنون أنهم بثورة المراهقة السياسية التي يعيشونها الآن، فإنهم يبدؤون صنع المجد الشخصي لمستقبلهم.
يا عقلاء بني إسرائيل -إن كان بقي فيكم عقلاء- أدركوا صبيانكم، وألجموا مجانينكم، إنهم يقودونكم إلى الهاوية وإلى الكارثة، كما قال أكثركم. إنهم يعبثون بمستقبل شعبكم عبثا لا مجال بعده للإصلاح، ولا ينفع بعده ندم. ولا يجدي القول "إننا حذرنا.." و"إننا قلنا..".
يا عقلاء بني إسرائيل؛ أدركوا مجنونكم الذي يريد إلقاء الحجر في البئر، حيث لن تستطيعوا أنتم أيها العقلاء ولا أمثالكم إخراجه بعدها.
يا عقلاء بني إسرائيل؛ إن "نتنياهو" يسعى إلى حظر الحركة الإسلامية، لكن قولوا له إنه باستمرار حماقاته ونوبات جنونه، وباستمرار استهدافه للمسجد الأقصى؛ فإنه يتقدم بسرعة في خطوات وإجراءات خروج كل المشروع الصهيوني خارج التاريخ وخارج الجغرافيا. إنها الكارثة، وإنه الخراب؛ حذر منه بعضكم، وعند ذلك فاعلموا أن من يخرج من التاريخ لن يعود إليه.
يا عقلاء بني إسرائيل؛ لا تجعلوا "نتنياهو" يخرق سفينتكم ويقامر بمستقبل أبنائكم، وإن الحركة الإسلامية ليست إلا لبنة صغيرة في جسد وهيكل مارد كبير. أنتم تعلمون أنه راح يزمجر وينفض عنه الغبار.
يا عقلاء بني إسرائيل؛ ألجموا صبيانكم وأدركوا صبيانكم قبل الكارثة وقبل الخراب.
(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
رحم الله قارئا دعا لي ولوالديّ ولنفسه بالمغفرة
(والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]