الخلفية الموسيقية مؤثرة ، مقامات العود الشرقي في أرقى «نوتاته شفافية»، والمؤثرات الصوتية الأخرى التي يستصحبها الفيلم، حسب الموقف وما يقتضيه، لها سلطتها أيضا؛ وظَّف الفيلم أيضا: التصوير المُتقن لشهادات المشاركين في التوثيق، وضبط الخلفيات والألوان والإكسسوارات، وظّف كذلك تنوع الأصوات وتميّز الانفعالات الشخصية ولغة التعبير الجسدي للمشاركين، بجانب توظيف الصور الفوتوغرافية- في الغالب من الإلبومات العائلية للمشاركين في التوثيق، بجانب إضافة تسجيلات حديثة، والأهم بالطبع، المجهود البائن للعيان للبحث التاريخي والتوثيق للمعلومات، وتوظيف صورة خريطة المدينة، أيضا، استخدام صورة «العملة النقدية» الوطنية، المستخدمة في ذلك الآوان.
الصوت والصدى
ينساب الحديث على مدى ساعة ونصف الساعة تناوبا بين (9) أشخاص، يقدمون شهادات حية على عدة محاور، هي قوام شريط لبنى دجاني السينمائي التوثيقي لا الوثائقي، بينما يأخذك العمل المتقن فنيا إلى عوالمه رويدا، رويدا، تذهب في الشجن، على خلفية موسيقية هادئة، لكنها محفزة بما يكفي للتأمل، من عمق حميميّ وأنت تتمثّل الشهادات، كأنك ضمن جلسة الأنس والمؤانسة التي تقدمها مادة الشريط، في قالب بسيط ومركّبٍ في آن، لكنه مترع بالشجن والعمق؛ وفي الأثناء تبدأ الأسئلة في التناسل عن المدن التي ولدنا فيها وشهدت طفولتنا، هل هي محض مدن لم تك في يوم من الأيام أبدا؟ أم هي مدن أنشأتها الذاكرة واكتسبت عراقتها من هذا الاختلاق- ذاكراتنا التي منحت مسقط الرأس وملاعب الطفولة قداسة لا تُمَس وأسبغت عليها عراقة ملتبسة؟ أم هي عريقة في الأصل ونحن الصدى، الصدى البعيد الذي يحاول أن يتشبث بالأصل مهما بعدت المسافات وتقطعت عرى الوصل؟ هل هي مدن تسكننا أينما حللنا؟ أم هي مدن نسكنها ولا عزاء للغياب والهجرة والمنفى أو التهجير والنفي القسري عنها: من الذي يسكن الآخر؟ من الذي هجر الآخر، أو أسكنه الذاكرة رغم مكوثه هناك، وأيهما الصوت أو الصدى؟
شريط «الرملة مدينتي» يوثّق للحياة فيها قبل عام 1948- تاريخ سقوطها في يد الاحتلال الإسرائيلي الماثل، عبر شهادات نادرة من أبناء جيل ولد فيها وشهد فيها صباه الأول، وعانى فيها قسوة الحرب والاحتلال بدون سابق إنذار؛ جيل يقدم شهاداته من مناف مختلفة، وهو يعرف معنى الهجرة والتهجير ويعرف عمق التاريخ وأصل الانتماء.
مكانٌ نادرٌ للعراقة
مدينة «الرملة» التي كانت عاصمة فلسطين لمدة (400) سنة، هي مدينة عربية إسلامية، أنشئت في عهد الأمير سليمان بن عبدالملك، من زمن الأمويين، كان قبلها بعام أميرا على فلسطين قبل رحيل أخيه، أنشأها سنة 715 ميلادية/ 96هجرية، على مدى (4) عقود حتى احتلال الصليبيين؛ كما يروي محمود عاشور في بداية الشريط، المحور الأول الذي يسلط الضوء على الخلفية التاريخية للمدينة، وتحتوي «الرملة»- حسب وكيبيديا- على العديد من المواقع الأثرية المهمة، منها: بقايا قصر سليمان بن عبد الملك، والجامع الكبير، وبركة العنزية شمال غرب الرملة بحوالي 1كم، والجامع الأبيض ومئذنته، وقبر الفضل بن العباس، ومقام النبي صالح.
حول هذه الخلفية التاريخية للمدينة تتناوب شخصيات الشريط الشهادات، أكثر من ذلك تستحضر الشخصيات من الذاكرة وصف معالم المكان، من بُعْدٍ شاهق في الشجن، حيث يصف فؤاد قوشير في شهادته، معالم المدينة منذ دخولها بالتفصيل، يستظهرها من القلب وهو الذي هُجِّرَ منها منذ وقت بعيد، يصفها لك شفويا وكأنه لا يزال هناك، ولا ننسى أن محمود عاشور حين أدلى بشاهدته مفتتحا الشريط، في هذا المحور، كانت صورة «الخريطة» بارزة ضمن شهادته؛ نحن هنا إزاء توثيق لمدينة من العراقة بمكان نادر وفريد.
تتسلسل المحاور التي يتناوب المشاركون فيها بالشهادات فتنبعث صور الحياة المدينية التي كانت هناك، قبل سنة 1948، يتسلسل الحكي وتتجلّى الصورُ؛ هي صور من طفولة الحكائيين، ونتعرف على تواريخ الأسر بالأسماء والبيوت كيف أنشئت وعلى أي أساس بُنيت، نتعرف من خلال الحكايات على الألعاب الشائعة في ذلك الوقت، وعلى السينما الصيفية التي يقبل الأطفال والناشئة على مشاهدتها، ولم تك هناك دور عرض سينمائية دائمة، ونتعرف أيضا على ارتياد بعضهم للكشافة البحرية؛ أيضا نعرف أن للمدينة تاريخا عريقا في صناعة الفخار، ومن خلال الحكي نعرف أن ثمة جهدا مدينيا ومبادرة فاعلة نحو «محو الأمية» له أثر كبير في المدينة قبل بدء حصار المدن واحتلالها، نتعرف أيضا على تقاليد الأسر والعوائل، من خلال حكي السيدتين ليلى التاجي ومليحة الخيري، عن البيارات وغزل الخيوط وأيضا عن المواسم، على وجه الخصوص: «موسم النبي صالح» والتفنُّنِ في صنع الحلويات، و«موسم النبي روبين»؛ يتسلسل الحكي حتى تأثر المدينة بالحصار، وبدء المعارك، وسقوط القرى والضواحي والمدن، والاعتقالات والاغتيالات والتقتيل والنفي والتهجير القسري.
يهود يسكنون بيتنا
في هذا المحور على وجه الخصوص تأخذ الشهادات منحى آخر، أقصى حالات التعبير الإنساني، يسجل بعضهم موقفه عن رفضه المطلق لزيارة «الرملة» إثر عام (1967) في ظل العلم الصهيوني، ويفصح أنه لم يزر المدينة خلال (64) عاما ونصف العام، ولا مرّة واحدة، وبعضهم يصف الأمر بـ «المصيبة»، مصيبة أن تزور بلدك ومسقط رأسك، بشرط أن تحصل على فيزا، يصف الأمر بسخرية مريرة لا تقاس؛ البعض الذي زار المدينة يحكي أيضا عن مرارات مؤسية، أن تضطر لأن تستأذن «الغريب» ساكن بيتك لأجل أن تدخله، فقط لتستحضر ذكرى، ويجابهك بالجفاء والرفض والشكوك، أنت صاحب البيت وهو الغريب، أكثر من ذلك هو القاتل والمغتصب والمحتل.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]