طارت عائشة وقد انتزعها الانفجار من يد أمها التي حاولت التشبث بها طوال الطريق، لتستيقظ على أنين جرحى حولها، والدماء تملؤ المكان. نهضت وشقيقاتها الثلاث يركضن باتجاه والدتهن التي تصرخ “بناتي، بناتي”، لحظات وتشبثت الطفلات مجددا بثوب والدتهن، وأخذن يركضن بعيدا عن المكان، فالعصابات الصهيونية ما زالت تلاحقهم.
لاحقوهم بالقتل
أصوات زخات الرصاص بدأت بالاقتراب من منزل إبراهيم أبو الروس المتربع في صدر مدينة اللد؛ ولتخفف الأم من روع طفلاتها قررت أن تقوم بإلهائهن بالاستحمام لحين عودة والدهن. وما أن سخن الماء؛ حتى ارتفعت أصوات زخات الرصاص مجددا، ولم يمر الكثير من الوقت حتى اقتحم عناصر العصابات الصهيونية المنزل، “يلا أطلع من بيتك بلاش نطخك … يلا روح عند عبد الله”.
دون أن تغلق باب المنزل خلفها، خرجت وطفلاتها مع سيل الأهالي بين جثث الشهداء التي تكومت على جنبات الطريق، فيما تصل معلومات عن مجزرة كبرى ارتكبت داخل مسجد اللد.
تروي عائشة أبو الروس “هددونا بقتلنا، وأطلقوا النار على مجموعة شبان أمامنا، فخفنا وخرجنا مع الأهالي .. لم نغلق باب المنزل ولم نأخذ كواشيننا (الأوراق الثبوتية) كما لم نأخذ معنا طعام او ملابس .. خرجنا بأجسادنا فقط”.
بالقنابل المتفجرة لاحقت العصابات الصهيونية الأهالي، لتقتل من نجا بروحه من مجازرها، “عندما اقتربنا من بيت نبالا بدأوا بإلقاء القنابل علينا، حيث أصبت أنا وشقيقاتي وفقدنا واحدة منهن، كما أصيب جارنا العريس أحمد جابر وزوجته اللذين لم يمض على زواجهما 40 يوما، فيما نجت أمي من الإصابة ووقفت تصرخ وتبحث عنا”.
بعد الابتعاد عن المكان، انتبهت العائلة لفقدان رويدة (6 سنوات)، التي كانت تساعد العريسين في حمل أغراضهما، “كانت رويدة تحمل سلة الطعام وبعد الانفجار اختفت.. توقعنا أن تكون ضائعة بين جموع الناس، وبقينا على أمل أن نجدها يوما ما”.
وتضيف عائشة، “بعد شهور التقينا مع أحد جيراننا من عائلة الزمبع، وأخبرنا أنه سار بالطريق التي مررنا بها ورأى رويدة تضع يدها تحت رأسها وقد استشهدت .. فلفها بملابس العريس التي ألقيت بجانبها ثم وضعها في مصرف المياه وأغلقها بالحجارة حيث لم يستطع دفنها كما يجب .. لم تصدق أمي أولا وما أن روى لها التفاصيل حتى انهارت وبدأت بالبكاء والصراخ”.
العصابات الصهيونية وقبل أن تجبر أهالي اللد على الهجرة منها، جمعت عددا كبيرا من رجالها قدر عددهم بأكثر من 450 رجلا داخل مسجد دهمش، وأطلقت عليهم النار ليستشهدوا جميعا.
وتنقل عائشة رواية زوجها، أنه سمع ندءات للتجمع في المسجد وبحث آلية التصدي للعصابات الصهيونية، وفي طريقه للمسجد ألتقى برجل أخبره أن المسجد أصبح مزدحما ليعود للمنزل وينجو من المجزرة، إذ تبين لاحقا أن العصابات هي من كانت توجه النداءات.
بعد أيام؛ عاد سعيد أبو زينة (زوج عائشة) متخفيا إلى اللد بعد أن هُجّر أهلها بشكل كامل، ونجح في التسلل إلى منزله ومنزل خالته وزوجة عمه، ثم أحضر مجوهرات العائلة وما استطاع حمله من أواني. “روى لنا كيف كانت جثث الشهداء تملؤ الطرقات فيما كانت اللد فارغة تمام ومخيفة”، تقول عائشة.
شهور مضت، وعائشة وعائلتها كباقي المهجرين يتنقلون من مكان إلى آخر، يعانون من انتشار الأمراض ونقصان الماء والغذاء، “لم نلتق بالجيوش العربية التي كنا نسمع عنها، قطعنا مشيا على الاقدام مسافات طويلة ونحن نعاني من الإصابات التي لحقت بنا، وأمي تمزق من ملابسها وتضع على جروحنا .. وفي إحدى المناطق التقينا بالدبابات الأردنية وكانت تنسحب من المكان، وقاموا بنقل عدد من اللاجئين المصابين على الدبابات ولكن لمسافة قصيرة جدا ثم أنزلونا”.
أيام البلاد.. اللد التي لا تحزن
ثلاثة شهور مضت قبل أن تنتقل عائشة وعائلتها إلى قطاع غزة، وما زال بهم الأمل بالعودة إلى منزلهم في اللد، “بجانب منزلنا كان حاووز ماء كبير، وفي الجانب الآخر جمعية يجتمع فيها شبان اللد، وأمام المنزل كان يوجد شجرة تين كبيرة نصب لي والدي فيها أرجوحة”.
وتتذكر عائشة كيف كانت أمها تتركها في الأرجوحة وتوصي الجارة على دفعها كلما بكت حيث كانت مصابة بالحصبة، وهو المرض الذي أفقدها بصرها لوقت غير قصير، قبل أن تستعيد بصرها وتعود للعب في الكرم بين أشجار البرتقال والليمون والجريفوت والزيتون وكروم العنب وتتسابق وأقرانها في تسلق أشجار الجميز (نوع من أنواع البلح)، “كنا في الصيف نترك منازلنا وننصب خيمة في الكرم ونعيش هناك لشهرين وهو أكثر ما كنا نحب .. الآن كله راح وأصبحنا الآن لا شيء معنا، كيف سأستعيد هذا الكرم؟”.
وفي مواسم قطف الثمار، كانت اللد تزدحم بالتجار والفلاحيين الذين كانوا يقفوا صفوفا بانتظار دورهم في الشراء، “كانوا يحملون على رؤوسهم القفف ويكون فيها اللبنة والزيت والخبز”.
لم تعرف اللد الهدوء والحزن قبل احتلالها، فكل أيامها كانت أعراسا وأفراحا لا تتوقف، فأهالي اللد كانوا يحتفلون خمسة أيام كاملة دون نوم عند زواج أحد أبنائهم، “أول يوم كان يعمل فيه محلقة للعريس (الحلاقة)، وفي اليوم الثاني “مهيلمة”، حيث تقوم العائلة بطبخ الطعام وتوزيعه، وفي اليوم الثالث يذهب العريس للمسجد وعائلته وأصدقاؤه، حيث يصلون قبل أن يتوجهوا لمنزل العروس” .
“يا عريس مبروك وسبع بركات وهااا … عيونك عيون غزلان وهااا .. وخدودك ورد التفاح وهااا”. كان يغني الشبان في زفة العريس، إلا أن الغناء والرقص لم يكن يتوقف، إذ كانت تحضر امرأة كبيرة في السن تعزف على العود، وجناكي (راقصات) يرقصن على الأغاني الشعبية، وذلك في استقبال العروس التي كانت تدخل وهي تحمل القرآن محاطا بالشمع”.
وتروي عائشة أن العروس كانت ترتدي سبعة فساتين ملونة، وكلما ارتدت واحدة يغني الحضور أغنية جديدة، وتذكر من الأغاني أنه كان يغنى للعروس عندما ترتدي الفستان العنابي، “هالأقهوجي واسموه حسن ويا قهوته متل العسل، هالأقهوجي واسمه حسين يا قهوته بتشفي العينيين”.
اهترأت الآلات الموسيقية وأذابتها سنين غياب الفرح عن اللد، اللحن مات ولم يبق منه سوى الصدى في أفواه المهجرين، وكلمات قليلة ترددها عائشة كلما اختلت بنفسها في منزلها الذي ما زالت تعتبره مؤقتا في بلدة سلواد شرق رام الله، فيما تردد على مسامع أحفادها جغرافية اللد وموقع منزل العائلة وكرمها، ليستعيدوه يوما عندما تعود اللد.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]