عشنا خلال الأسبوعين الماضيين سجالا إعلاميا ابتدأه وزير خارجية الإمارات، محمد بن زايد، بتوجيه اتهامات باطلة وإساءات وكلمات ومصطلحات سوقية قالها بحق فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي؛ رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وقد ساند بن زايد في تلك الحملة الشعواء الظالمة كتّاب البلاط وصحافيوه من الذين يقتاتون من فتات موائد بن زايد.
ومن الجهة المقابلة فلقد كان رد الشيخ القرضاوي صادا وحازما وغير متلعثم حين قال: (ما أن انقضى شهر رمضان حتى انطلقت الشياطين من أصفادها). ووقف إلى جانب الشيخ القرضاوي وسانده في كلمة حق كثيرون من علماء وشرفاء وكتاب الأمة، الذين انبروا للدفاع عنه في وجه صبيان الإمارات وكراكوزات آل زايد.
قرأت الكثير في محاولة لفهم أسباب هذا الانفلات السوقي لمحمد بن زايد على علاّمة في مقام الشيخ القرضاوي، وفي حق رجل يوشك أن يبلغ من العمر تسعين عاما، فوجدت من الأسباب الكثير، لكن أبرزها كان: أن محمد بن زايد خصوصا والإمارات كنظام عموما، قد أخذت على عاتقها محاربة ومواجهة مشروع الصحوة الإسلامية في العالم أجمع، وليس فقط في الوطن العربي. هكذا كان دورهم في دعم انقلاب السيسي، وهكذا دورهم في مناهضة تركيا، وهكذا دورهم في دعم محمد دحلان وسياسته ودوره المشبوه ضد حركة "حماس" خصوصا، والمشروع الوطني الفلسطيني عموما، وهكذا دورهم في دعم خليفة حفتر انقلابي ليبيا.
إنهم حكام الإمارات الذين في كنفهم وقعت عملية اغتيال محمود المبحوح؛ القيادي الفلسطيني، ومن منابرهم الإعلامية خرجت تفاهات وسفالات ضاحي خلفان ضد كل ما هو إسلامي، وخاصة ضد الشيخ القرضاوي وضد د. محمد مرسي الرئيس المصري الشرعي. ولا ننسى الإشارة إلى أن الإمارات تعتبر من الدول النادرة التي يغيب عنها أي مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية؛ سواء في البعد السياسي أو حتى في البعد الاجتماعي، بينما في المقابل تشتهر الإمارات بدور اللهو والفجور وتجارة الجنس التي تعادل تجارة الماس والنفط فيها.
لكن السبب الأبرز، الذي جعل صبي الإمارات بن زايد يتلفظ بتلك التفاهات والتطاولات، هو تلك المفاجأة التي تمثلت باستضافة السعودية لثلاثة من أبرز دعاة الحركة الإسلامية العالمية؛ وهم فضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني من أشهر علماء اليمن ومن قادة حزب الإصلاح اليمني، وفضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي وفضيلة الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية. حيث جرت استضافتهم لأداء العمرة في العشر الأواخر من شهر رمضان واستقبلوا استقبالا رسميا من قبل الملك سلمان، مع العلم أن الشيخ القرضاوي لم يسمح له بدخول السعودية خلال السنوات الخمس الأخيرة؛ أي منذ ثورة 25 يناير، وكذلك الشيخ الزنداني، وأن الشيخ الغنوشي أرجع من مطار جدة وهو يلبس لباس الإحرام قبل سنتين.
لقد جن جنون صبيان آل زايد مما اعتبروه تغييرا في الموقف السعودي من جماعة الإخوان المسلمين، التي سبق وجرى التعامل معها بعد انقلاب السيسي على أنها تنظيم إرهابي، الأمر الذي أغضب آل زايد، فكانت تلك الانفلاتة الصبيانية من محمد بن زايد على فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي.
فعلا وحقا إننا في زمن الشقلبة؛ زمن انقلاب الموازين، حينما يتطاول السفهاء على العلماء، وحينما لا يحترم الصغار الكبار، وحينما يسيء الأقزام للعظماء، حينما يخوّن الأمين ويؤتمن الخائن، وحينما يتكلم في أمر الناس ويحكمهم الرويبضات من الحمقى السفهاء وصبيان السياسة وأنظمة الحكم.
وإننا لا نلوي أعناق النصوص حينما نقول إننا في الزمان الذي تحدث فيه وعنه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أمارات الساعة وأشراطها فقال: (...ولكن لها علامات تعرف بها: إذا رأيت رعاء البهم "البهائم" يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض...). وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة سنين خداعة فيها يخوّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، ويتكلم في الناس الرويبضة قالوا: "وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال السفيه يتكلم في أمر العامة).
وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة أن يملك من ليس أهلا أن يملك، وأن يرفع الوضيع ويوضع الرفيع). وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها). وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يغلب على الدنيا لكع بن لكع). قال الإمام الجوهري في تفسير كلمة "لكع": هو اللئيم. وقال ابن الأثير: هو الوسخ. فهل سمعتم ألأمَ وأوسخ من ابن زايد؛ هذا الرويبضة الوضيع الذي يتطاول على الشيخ القرضاوي العالم الجليل وصاحب المكانة العلمية والدينية الرفيعة؟!
ها هم رعاة البهائم من الجمال والأغنام يتطاولون في البنيان. وها هم العراة الحفاة قد أصبحوا ملوكا وأمراء ولهم دول وعواصم وجيوش وأموال. إنها أموال الإمارات التي تفسد في كل مكان، وتشتري الذمم والمواقف والضمائر. إنها الأَمارات تظهر في الإمارات.
كان الأولى والأجدر بصبي آل زايد، الذي أصبحت دبي وأبو ظبي مقرات للعهر الأخلاقي وللعهر السياسي، حيث وجد فيها كل مرفوض وطنيا ملاذا آمنا، بل دعما سخيا كحال عصابات مبارك ومحمد دحلان وغيرهما، لقد كان الأولى والأجدر أن تستخدم إمكانات الإمارات المادية لنهضة الأمة وليس لمحاربة مشروع النهضة. وكان الأجدر بحكام الإمارات أن يجندوا إعلامهم حيث المدينة الإعلامية في دبي مقرا للفضائيات الهدامة والفتاكة في جسد الأمة وأخلاقها ودينها.
قال الأستاذ محمد احمد الراشد: (نعم، سبقت حصيرةٌ، في الميزان، ناطحةَ سحاب، لكنها ناطحة السحاب النفاقية الفاجرة، أما حين تنطح السحاب استمدادا من عزها الإسلامي وشموخا بالعفاف الإيماني فإنها تسبق مليون حصيرة).
إن ناطحات سحاب دبي هي نفاقية وفاجرة، حيث سفلة الخليج قد أصبحت وجهتهم دبي وأبو ظبي، حيث أوكار الفساد والفجور، بما فاق أوكار بيروت وتايلند وعواصم أوروبا. إنها ناطحات سحاب وأبراج ليس فيها من الطهر الإيماني ولا العفاف الإيماني شيء ما يجعلنا نتمنى أن لو بقي أهل تلك البلاد على حصير، خيرا من أن يكونوا قد فسدت ذممهم ودينهم بفساد وفجور حكامهم، من كثرة ما نزل بهم من خير ورزق.
من حصيرة كانت مقر حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلقت جيوش الفتح الإسلامي لفتح بلاد فارس، ويدخل الفاتحون إلى قصور كسرى ومقرات حكمه، بينما في الإمارات اليوم ناطحات السحاب والأبراج العملاقة، في وقت أن ثلاث جزر إماراتية في الخليج العربي "الفارسي" قد احتلتها إيران الفارسية، وحيث حكام الإمارات يملأون أفواههم ماءً، ولا يجيدون سوى الثرثرة، بل والتطاول على العلماء الشرفاء.
ليس أن حكام الإمارات قد تطاولوا في البنيان وحسب، بل إنهم راحوا يتطاولون على أشراف الأمة وخيرة رجالاتها. فما من عالم جليل ولا وطني شريف إلا ناله أذاهم وبذاءة ألسنتهم وأبواقهم الإعلامية. لقد تطاولوا على مقاومة غزة، وتطاولوا على رئيس مصر الشرعي محمد مرسي، وموّلوا الانقلابي السيسي، ولم يعبأوا بقرار الشعب المصري باختيار رئيس لهم في صندوق الانتخابات، وتطاولوا على الرئيس أردوغان، وتطاولوا على الشيخ الغنوشي، وتطاولوا على الشعب الليبي حينما دعموا وما يزالون القتلة المجرمين أمثال خليفة حفتر، وكانت آخر موجات التطاول تلك التي نالت من العالم الجليل، وأحد رموز الأمة وأعلامها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي.
الشيخ القرضاوي صاحب 150 كتابا ومجلدا، يوسف القرضاوي الفقيه والأديب, والشاعر، يوسف القرضاوي حافظ القرآن الكريم منذ كان ابن سبع سنين، يوسف القرضاوي الكاتب الذي نشأ على طاعة الله، وذاق في سبيل دعوته كل صنوف الأذى، وعاش شريدا بعيدا عن وطنه، يوسف القرضاوي صاحب كلمة الحق في وجه سلطان جائر، قالها يوم صمت بل انخرس غيره، يوسف القرضاوي نصير المظلومين والمستضعفين في فلسطين ومصر وسوريا، حيث حمل همومهم وعبر عن حالهم بقلمه ولسانه.
يوسف القرضاوي الذي لم يُجمع على أحد سواه ليكون خطيب جمعة النصر في ميدان التحرير يوم خلع حسني مبارك، رغم كثرة المشايخ والمعممين في بلد الجامع الأزهر، ولكن لأن كل فئات الشعب المصري عرفت فضله وتأثير كلماته في سير ثورة يناير قبل أن تفسد البعض منهم حزبيتهم العمياء، القرضاوي المحكوم عليه بالإعدام من نظام السيسي ومن نظام بشار.
إن قامة علمية ودينية كقامة الشيخ القرضاوي يجب أن تكرم وتقدر وتقدم لها الشهادات التقديرية عرفانا من الأمة بفضله، لا أن يُسَبّ ويُشتم ويُتطاول عليه من سفهاء الإمارات وصبيانها، ابن زايد وخلفان وغيرهما.
لقد وصلت عدوى التطاول على رموز الأمة لمجرد قول الحق حتى إلى شعبنا الفلسطيني، حيث أنه وقبل ثلاث سنوات، وحينما أفتى الشيخ القرضاوي ضد نداء "أبو مازن" العرب والمسلمين لزيارة القدس والأقصى تحت الحراب الإسرائيلية، فكان للشيخ القرضاوي موقف واضح في عدم جواز ذلك تحت ظل الاحتلال، لأن هذا من أشكال التطبيع، وقدم لذلك مبرراته. فما كان من رجالات سلطة رام الله وقطعانه بإيعاز من أبي مازن إلا وعلقوا اللافتات الضخمة في ميادين نابلس وجنين ومدن الضفة فيها صور الشيخ القرضاوي وعليها عبارات التهكم والاستهزاء.
لن يضر الشيخ القرضاوي تطاول الصبيان والسفهاء الذين ظنوا أن أرصدتهم المالية، وأن ناطحات السحاب والأبراج التي بنوها ترفع قدرهم وتعلي شأنهم، وما علم هؤلاء أن الحصيرة التي جلس عليها الشيخ القرضاوي في كُتّاب قريته هي أفضل وأقدس من ناطحات سحابهم.
لن يضر الشيخ القرضاوي تطاول وسباب وشتيمة هؤلاء المارقين أخلاقيا ووطنيا، حيث أننا في زمن الشقلبة وزمن انقلاب الموازين في كل شيء . لكنها مرحلة وستمضي، وليلة وسيطلع صبحها، وغمامة صيف ستنقشع. (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، يبقى الشيخ القرضاوي وكل العلماء العاملين مفخرة الأمة ومصدر اعتزازها وأخلاقها وبوصلتها في دياجير الظلم والظلام، حتى ينقشع هذا الظلام بإذن الله تعالى. أما صبيان آل زايد ومن اشتروا ذممهم من العلماء والكتاب والصحفيين والسياسيين ومن أنظمة الفساد فإن أمثال كل هؤلاء إلى مزابل التاريخ بإذن الله تعالى. وستعرف الأمة كيف تقدر الشيخ القرضاوي، بل وأعظم من ذلك فإنه الله جل جلاله الذي يعرف كيف يرفع مقام العلماء العاملين: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
نعم، قريبا بإذن الله تعالى سيُداس هؤلاء المتطاولين بالأقدام كما تداس الحصيرة، بل وسيلقون إلى مزابل التاريخ كما تلقى الحصيرة البالية، أما الشرفاء وأهل العلم وأصحاب الفضل، أمثال الشيخ القرضاوي، فسيظلون شامخين أعزاء أباة، مثل ناطحة السحاب بل وفوق السحاب، ولن يضيرهم نباح الكلاب في زمن السنين الخداعة. وحقا وصدقا إنها أَمارات الساعة تظهر في الإٍمارات.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]