يومان، بل ساعات تفصل بيننا وبين أنوار ذكرى مولد النور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ). إنها أنوار المولد، وإنها نسمات شهر الربيع، ربيع مولده صلوات ربي وسلامه عليه.
ولأنه كان دعوة أبيه إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ). ولأنه كان بشارة أخيه عيسى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ), ولأنه كان خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فهذا معناه ويقينا أن أنوار رسالته وإشعاعات دعوته لن تنطفئ، وأنها ستظل تشرق على الدنيا حتى قيام الساعة, فقمر رسالته لن يغيب وشمس دعوته لن تنطفئ أبدا بإذن الله تعالى.
لكن الكيد والعداء الذي استوطن في قلوب أعداء هذا الدين يظل يطل برأسه كلما أتيحت الفرصة، وكلما اشتعلت نيران الغيظ، وهم يرون الإسلام يُفشل كل مخططاتهم، ويربك كل حساباتهم، وهم الذين ظنوه مات وشيع إلى مثواه الأخير منذ عقود، فكيف؟ ومن أين؟ وما هي ظروف عودة الإسلام ليشغل الدنيا وليجعل أعداءه يحيدون خلافاتهم ويلتقون على حرب الإسلام في معركة كونية قد حمي وطيسها.
وإن ما يجري في هذه الأيام من حرب سافرة على الإسلام ليجعلنا، ونحن في رحاب ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نقلب صفحات التاريخ لنجد خير شاهد على أن الإسلام عصي بإذن الله على كل الأشرار والحاقدين.
مُو رمّانِه ولكن قلوب مليانِه
إنه العام الذي ولد فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم عام 570 للميلاد، والعام الذي فيه سيرت الجيوش الحبشية جاءت من الحبشة، وانطلقت من قاعدتها في اليمن التي كان الأحباش سبق واحتلوها وبنوا فيها كنيسة ضخمة أرادوا من خلالها أن يبهروا أعين العرب بعظمة بنائها ليجعلوهم ينجذبون إليها ويديرون ظهورهم للبيت الحرام؛ قبلة العرب في مكة. فكان أن أغضب هذا الفعل أعرابيا بسيطا انتصر للبيت الحرام بطريقة فظة وغير عادية بان قام وبال داخل الكنيسة "غَرقة القليس" التي بناها الأحباش في اليمن.. فغضب الأحباش وسيروا جيشا لهدم الكعبة انتقاما من فعلة ذلك الأعرابي، وتقدمت الفيلة ذلك الجيش.
فهل كان تدنيس كنيسة غرقة القليس من شخص واحد سببا كافيا لتسيير جيش عرمرم لهدم الكعبة وتدنيسها، كما خطط أبرهة؟ وهل كانت كذبة وفريه ادعاها القسيس بطرس الناسك من أن المسلمين يريدون نبش قبر المسيح: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) في القدس، وأنهم يريدون هدم كنيسة القيامة ويمنعوا المسيحيين الوصول إليها، فهل إشاعة كذبة كانت كافية لتسير جيوش وحملات صليبية متتالية من أوروبا لقتال المسلمين حصدت في يومها الأول سبعين ألف مسلم قتلوا في ساحات الأقصى، واستمر القتل والقتال قريبا من 150 سنة؟
وهل كانت الولادة غير الطبيعية لداعش في العام 2012 دون معرفة حسبها ونسبها، وتسهيل سيطرتها على قسم كبير في سوريا وفي العراق، هل كان هذا سببا لتحالف دولي عالمي يضم قريبا من سبعين دولة تقودها أمريكيا؟ هذا التحالف يقوم اليوم بدعم قتلة العراق وطواغيت سوريا.
لم يكن تدنيس كنيسة اليمن، ولا كذبة نبش قبر المسيح، ولا محاربة داعش أسبابا مقنعة لحروب طاحنة وحملات عسكرية متواصلة ضد العرب يومها، وضد الإسلام اليوم. إنما السبب الحقد والكراهية (مو رمانة ولكن قلوب مليانة). إنه المثل الذي يقال عمن تخاصما خصاما شديدا، وظاهر الأمر أنه خلاف على ثمرة رمان, ولكن الحقيقة أنه بسبب أحقاد دفينة ومليئة بالكراهية.
فإن للأقصى ربا يحميه وشعبا يفديه
نعم، هكذا قال عبد المطلب؛ جد النبي صلى الله عليه وسلم، لما ذهب إلى مقر قيادة جيش الاحتلال الحبشي ليقابل أبرهة ويطلب منه أن يرد إليه إبله وجماله التي استولى عليها جنود أبرهة في المراعي، فقال له أبرهة إنك كنت في أعيننا كبيرا، وها نحن نسمعك تطالبنا بنوق وجمال بينما نحن نريد هدم كعبتكم وبيتكم المعظم! فقال له عبد المطلب قولته المشهورة: (وأما الإبل فهي لي وأنا ربها (صاحبها)، وأما البيت فله رب يحميه).
لقد قيلت هذه العبارات التي أصبحت من الأقوال المأثورة على مدار التاريخ، قيلت في العام الذي ولد فيه لعبد المطلب حفيد هو محمد صلى الله عليه وسلم "عام الفيل". ولما أننا نعيش نفحات ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في أوج الاستهداف والكيد والتخطيط الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي لهدم المسجد الأقصى المبارك من أجل بناء هيكل مزعوم على أنقاضه، وأن الاحتلال الإسرائيلي يملك الأسلحة والإمكانات الرهيبة من أجل تنفيذ مخططه الأسود تفوق القوة التدميرية التي كانت الفيلة ستحدثها في المسجد الحرام والكعبة المشرفة، فإنه المسجد الأقصى شقيق المسجد الحرام، وقد بني بعده بأربعين سنة في عهد آدم بنته الملائكة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد قالها عبد المطلب يومها ونحن نقولها اليوم: إن للأقصى ربا يحميه وشعبا يفديه.
إشعاع النور يضيء الشام وفارس
في ذات الليلة التي ولد فيها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عام الفيل, قالت أمه آمنة بنت وهب أنها وعند ولادته رأت أن نورا خرج منها أضاء قصور الروم في أرض الشام. وقال المؤرخون إنه في ليلة مولده صلوات ربي وسلامه عليه، وبدون أسباب معروفة، تصدعت وانهارت 14 شرفة من شرفات قصر كسرى ملك الفرس, وانطفأت نار المجوس التي كانوا يعبدونها، والتي كانت مشتعلة مدة 5 آلاف سنة لم تنطفئ أبدا قبل ذلك.
إن الروم كانوا يحتلون شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام، وإن الفرس كانوا يحتلون بلاد العراق, وإن الأحباش كانوا يحتلون اليمن وجنوب الجزيرة العربية. ففي عام مولده صلى الله عليه وسلم كانت بشائر وعلامات انهيار الإمبراطوريات الثلاث, الأحباش والروم والفرس.
نعم، لم تمض إلا سنوات بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وإذا بجيوش الفتح الإسلامي المبارك ترابط على حدود دولة الروم، بل وتصطدم معها في مؤتة وتبوك, ثم كانت بعدها اليرموك وإنهاء الوجود الروماني في بلاد العرب، وليدخل المسلمون إلى دمشق وإلى المدن التي كان يحتلها الروم، وقد بنوا فيها قصور ملكهم, وليخرج هرقل ملك الروم ذليلا يلوح بيديه لدمشق يقول: (وداعا دمشق, وداع لا لقاء بعده).
وفي نفس الوقت، وبموازاة فتوح شمال الجزيرة العربية والانتصار على الروم فإن جيوش الفتح الإسلامي المظفرة كانت تدك حصون جيوش الفرس، التي كانت احتلت بلاد العراق، وليس أنها طردت الفرس من العراق، بل لاحقتهم وانتصرت عليهم، بل ودخل المسلمون إلى المدائن عاصمة الفرس، بل ودخلوا القصر الأبيض؛ قصر كسرى الذي تهدمت شرفاته ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ مرّغت أنوفهم في معارك الجسر والبويب والقادسية.
نعم، كما رأت آمنة أم رسول الله ليلة مولده قصور الروم من الشام، فكأنه إرهاص بأن أنوار المولود المبارك محمد صلى الله عليه وسلم ستصل إلى هناك، وقد وصلت، وأن أنوار الدين الذي سيحمل رايته ونشر تعاليمه ستصل الى عقر دار وقصور وعاصمة الفرس وقد وصلت.
وها نحن في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم يوم بعد غد الأحد 12 ربيع الأول فإنهم الروم وإنهم الفرس يعودون يصولون علينا صولتهم. فها هم الفرس يحتلون العراق، وها هم الروم وتحالفهم الشرير في سوريا وتنسيقهم الكامل مع الفرس، وكل ذلك حربا على الإسلام الذي عمره 1438 سنة، وليست حربا على تنظيم اسمه "داعش" الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات.
ولن أتردد في القول إن الدور الإيراني في العراق وفي سوريا وفي اليمن، وإمعانه في دعم الأنظمة المجرمة، بل وقيادة معارك وتدمير حلب وتجويع الموصل إنما هي عملية ثأر وانتقام وكراهية ضد الإسلام وضد العرب، فمن قصور إيران تصدر فرمانات وأوامر المذابح والدمار الذي ينزل اليوم بحلب والموصل. ولكن حتما ويقينا وأملا- كما الله سبحانه في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم قد صدع شرفات قصور الفرس- فإنني على يقين بأن شرفات وغرف مقرات الفرس اليوم ستتصدع على يد أبناء الإسلام الحقيقيين (لا داعش) ولا غيرها، إنهم الذين يرفعون وبحق راية محمد صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم!
فيل أبرهة ودب بوتين وكلب ترامب
إنها الحرب المستعرة هذه الأيام على المسلمين. وإنها شلالات الدم تسيل في شوارع حلب والموصل وكل بلاد الشام والعراق. إنها الحرب العالمية غير المعلنة راحت فصولها تتوالى وعجلتها تتحرك وجبهاتها تفتح الواحدة تلو الأخرى. حيث أبناء الإسلام من جهة وأعداؤهم- وما أكثرهم وما أكثر تحالفاتهم وراياتهم- من الجهة المقابلة.
وإذا كان أهم سلاح تدميري بيد الأحباش وبيد الفرس في عام مولده صلى الله عليه وسلم هي الفيلة (ومن يقرأ تفاصيل معركة الجسر والقادسية سيجد اعتماد الفرس الكبير على الفيلة)، فها نحن نرى في المقابل ماذا يفعل الدب الروسي حليف إيران في سوريا، وكيف يدمر حلب وبلاد سوريا بطائراته. إنه بوتين رئيس روسيا الذي يغرس أنيابه ومخالبه في جسد السوريات والسوريين وأطفالهم. إنه الذي يتمتع بسيل دمائهم على يديه كما يتمتع الدب المتوحش بالدم على شفتيه ومخالبه يسيل من ضحاياه.
وفي المقابل فها هو الرئيس الأمريكي الجديد ترامب، وبعد إذ مضت خمس سنوات على سيرك سوريا تتفرج فيه إدارة أوباما على أسد جائع شرس كيف يفترس الضعفاء من الأطفال والنساء في عرض سيرك كبير، وإذا بالرئيس الأمريكي الجديد يعين وزيرا للدفاع جنرالا متقاعدا اسمه جيمس ماتيس، ولقبة ( الكلب المسعور).
حتما ويقينا فإن كلب ترامب المسعور سيستعرض بطولاته على المسلمين وليس على غيرهم، وإن المرحلة القادمة لن تشهد إلا مزيدا من التصعيد ومزيدا من الاستعداد لجولات من الصراع رهيبة ودموية.
نعم، قد تلتقي مصالح الدب الروسي والكلب الأمريكي, ولكنها كذلك قد تختلف، وقد يقودها اختلافها على مصالحها وغنائمها ومناطق نفوذها إلى صدام واحتدام الصراع بينهما، لكن للأسف فإن جولات الصراع هذه لن تكون إلا على أرض المسلمين والعرب، وهم سيكونون ضحاياها ووقود نارها، وستكون سوريا وبلاد الشام هي موقدة تلك النار الرهيبة.
في مولد الحبيب الفرج القريب
كما حمل يوم وعام ميلاده صلى الله عليه وسلم بشريات خير للإنسانية؛ تمثلت بهلاك الطواغيت الأحباش وإرهاصات فتح بلاد الفرس والروم وكذلك كان، فإننا وفي ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم فإنه يغمرنا الأمل بل واليقين بأننا على أبواب خير قادم وفرج قريب بإذن الله تعالى.
إنها آلام المخاض التي تعيشها الأمة، الآلام التي تسبق الميلاد يصاحبها الدموع والدم والآهات، ولكنها حتما ستنتهي، وحتما سيكون بعدها الفرج والسرور والنشوة بالنصر والفتح المبين.
يومها كان هلاك فيل ابرهة، واليوم بإذن الله، ستحمل لنا السنوات القريبة القادمة بشريات هلاك الدب الروسي والكلب الأمريكي الذي طالما ولغ في دمائنا. إنه مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أشرق في مكة وتلألأ في طيبة؛ هذا النور سيظل ينبعث وسيشرق على الدنيا يبدد ظلام وظلم موسكو وواشنطن وكل عملائهما.
واشنطن من مكة ذرة وموسكو من طيبة كالهباء
فمن مكة شع نور الهدى ومن واشنطن شاع سفك الدماء
فمن طيبة شع نور الهدى ومن موسكو شاع دعم البلاء
فأبشروا يا أتباع ويا أمة الحبيب، فوالله ثم والله إن الفرج قريب.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]