لم تمحُ الأيام ذكرى القرى الثلاث المهدمة في السادس من حزيران عام نكسة (1967)، إذ ما زال يذكرها الحاج الصحفي عبد المجيد أبو غوش (76 عاما)، ليتحدث عن أيام زمان، وعن الكروم، والساحات، والأرض الشاسعة المزروعة قمحا، وشعيرا، وذرة بيضاء، وتلك السهول التي كانت وما زالت تحمل أسماء أطلقها عليها أهل قرى (عمواس، ويالو، وبيت نوبا)، المعروفة بقرى اللطرون، وهي القرى الثلاث الوحيدة التي عمل الاحتلال على تدميرها، وتهجير أهاليها عنوة إبان النكسة.
يجلس الحاج عبد المجيد في منزله بمدينة رام الله، ويحمل كتابا ألفه بعنوان: "عمواس التي لن تمحى من الذاكرة أبدا"، يتحدث فيه عن تفاصيل الحياة هناك قبل الرحيل إبان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، مشيرا إلى أن عمواس وهي في الرملة، تبعد عن مركز المدينة 10 كيلومترات، وعن يافا قرابة 40 كيلومترا، ومثلها من القدس، وبلغت مساحة أراضيها عام 1948 قرابة 43 ألف دونم.
ويقول: كل واحد من المهجرين من قرى اللطرون الثلاث يذكر أرضه والمواقع التي كانت، فأهل يالو يذكرون أسماء مواقع قريتهم ويتذاكرون: ظهر يالو، وعين العقد المشتركة بينهم، وبين عمواس، ويذكر أهالي عمواس جيرانهم أهل يالو بالتلة المشرفة على كروم عمواس "أرض كفروط"، وبجوارها "بصة علي اسماعيل" ضمن أرض عمواس، وبين يالو وبيت نوبا أراضٍ مشتركة، تفصلهم "حديدة يالو"، أو "الفاردة المسخوطة".
يضيف أبو غوش: "كبر الصغار فصاروا شبابا، والشباب صاروا شيوخا، معظمهم فارق الحياة دون العودة إلى موطنهم، وما زالت العلاقة الحميمة التي كانت تربط الأهالي تحافظ على حرارتها الدافئة، لأن تاريخا يربطهم، لا سيما على مقاعد الدراسة في الصفوف الإعدادية، بمدرسة قرية عمواس، ويذكرون قصصا عن حياتهم المدرسية، وعلاقتهم مع معلميهم، ولا ننكر أن الكثيرين غادروا الوطن إلى الشتات، ولكنهم هناك مهما طالت المسافة، حين اللقاء صدفة تشتعل حرارة الشوق، والاشتياق".
ويتابع قائلا: "كبرنا وكبر معنا الألم، أخبرت أبنائي عن عمواس بتفاصيلها كنت أجيب على اسئلتهم عن قريتهم، وما سأله الأبناء يعيده الأحفاد، وستبقى قضية القرى الثلاث كما القضية الفلسطينية في مشاعرنا، وعروقنا حتى العودة".
ويذكر أبو غوش أبناءه أيضا بمواقع ما زالت أطلالها حتى الآن، منها رأس الجبل المطل على باب الواد، وعلى عين الماء المسمى "بئر الحلو"، التي يوجد بجانبها مقام ومقبرة صغيرة، والمقام عبارة عن مسجد صغير اسمه "الشيخ امعلّا".. وهو مقام القائد الصحابي الجليل معاذ بن جبل الذي وصل عمواس، ومكث فيها أثناء الفتوحات الإٍسلامية، وتحيط به أرض شاسعة هي ملك للأوقاف الإسلامية.
كانت العجائز تضيء المقام بأسرجة الزيت، والفتيل، تقربا إلى الله عزّ وجلّ، وكانوا يستجيرون بالشيخ امعلّا كما في سائر البلدان حيث الاستجارة بالأولياء.
ولم تمح من ذاكرة الحاج عبد المجيد تفاصيل السور المحيط بأشجار السرو والصنوبر الذي يتوسطه بناء كبير، وهو كان يتوسط بيوت القرية، وهذا البناء هو مبنى كنيسة تُسمى "كنيسة عمواس"، وكانت هذه الكنيسة وذاك الدير البعيد على علاقة حميمة مع أهل القرية، ويقول: "أذكر أن الراهب الذي كان يحافظ على الكنيسة اسمه "فرير جاك"، وكان يُقال لنا إنها "فرانسيسكانية"، مربوطة فورا بفرنسا، وهذه الكنيسة بداخلها مكان أثري، يُقال إنه الاجتماع السري للمسيح مع الحواريين "تلامذته"، والبعض يقول إن "المائدة السرية" نزلت فيه وتظهر آثار تدل على ذلك.
كل هذه الذكريات الجميلة بدأت بالتحطم جراء اعتداءات الاحتلال التي استهدفت القرية مرارا، قبل قيام دولة إسرائيل، حيث تعرضت عمواس لعدد كبير من الهجمات، لكن الجيشين المصري، والأردني، وبمساندة من الأهالي هناك كانوا يصدون تلك الهجمات.
وبعد انتهاء حرب 1948 أصبحت القرية تتعرض لإطلاق نار بشكل متواصل من جنود الاحتلال المتربصين بها على الدوام، وقتل عدد من المواطنين، أثناء عملهم بأرضه الزراعية الغنية بالمياه.
ويقول أبو غوش ناقشا في ذاكرته "الفولاذية": كانت تدور معارك بين الأهالي، والعصابات الصهيونية بعد انتهاء الحرب، إلى أن دخلت الكتيبة الرابعة من الجيش الأردني للقرية، برئاسة حابس المجالي، وكانت تخوض معارك ضارية وسجلت معارك بين دير اللطرون عمواس"، مشيرا إلى أن حابس المجالي كتب في مذكراته أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون أصيب في تلك المعارك، ويضيف" استشهد جدي في واحدة من تلك المعارك".
وتحدث عن فقر شديد أصاب القرية في أعقاب الحرب في نهاية أربعينيات القرن الماضي، لكن مع انتشار التعليم في مدرسة القرية، وانتقال الشباب للدراسة في القرية، وعملوا في التعليم والوظائف الحكومية بدأ الوضع بالتحسن، منوها إلى انه عمل في المملكة العربية السعودية معلما منتدبا من قبل وزارة التربية والتعليم الأردنية آنذاك.
ويؤكد أبو غوش أن عمواس عاشت في مطلع الستينيات من القرن الماضي حالة من الاستقرار والتقدم لم تصل إليها القرى والبلدات المجاورة في ذلك الوقت، مضيفا" في تلك الفترة وصلت المياه للبيوت، وكان يجري التحضير لإيصال الكهرباء للقرية لكن المشروع لم يكتمل، وكانت 7 حافلات تعمل على خط عمواس- رام الله، تعمل على مدار الساعة".
كل ذلك تحطم مع التهجير الذي تعرض له أهالي القرية في الخامس من حزيران عام 1967، حيث أجبر الأهالي على ترك قراهم الثلاث بقوة السلاح، وتوجه جزء منهم إلى رام الله، وآخرون إلى القرى القريبة غرب رام الله بينها بيت لقيا والطيرة وغيرها.
كان يحرس القرية في ذلك الوقت 400 جندي مصري، وكان يحرسهم جنود من كتيبة أردنية، لكن المعارك أسفرت عن هزيمة القوات العربية، وأجبر السكان على الرحيل عن القرية بقوة السلاح ولم يسمحوا لأي شخص بأن يأخذ أي شيء من منزله.
ويضيف الحاج عبد المجيد:" بعد يوم واحد من تهجير الأهالي من القرية قامت الجرافات الإسرائيلية بهدم القرية بالكامل ولم يبق منها شيء، وجرى تحويلها اليوم إلى محمية طبيعية.
ويشير إلى أن أهالي عمواس حاولوا العودة إلى منازلهم، وعادوا بالفعل من رام الله إلى القرية، سيرا على الأقدام، لكنهم تفاجأوا بوجود قوات الاحتلال هناك، التي رفضت السماح لهم بالعودة، فرجعوا مرة أخرى إلى رام الله، مؤكدا أن بعض أهالي القرية رفضوا خلال حرب حزيران، الخروج من منازلهم فهدمها الاحتلال على رؤوسهم، وهم أحياء ليقضوا شهداء.
ويختتم الحاج أبو غوش حديثه بالقول "أهالي القرى الثلاث لن ينسوا قضيتهم، فقد هجروا قسرا من ديارهم، الواقعة ضمن خطوط الرابع من حزيران 1967، ولهذا نرفض أي حل بديل عن العودة"، مطالبا المؤسسات الحقوقية والدولية والسلطة الوطنية ببلورة حل عادل يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم اليوم قبل الغد.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]