إني على إيمان راسخ أن القدس ويافا هما بوصلة فلسطين، وهما كذلك المدينتان اللتان حددتا مصير فلسطين في السابق و تحدّدانه في الحاضر والمستقبل , ولنا أن نراجع التاريخ: فمجرد أن سقطت يافا سقطت فلسطين وباقي أجزائها تعلق مصيره بمصير القدس وبمجرد أن سقطت عام 67 سقطت آخر أوراق الشجرة المباركة، وأفل نور مملكتنا المجيدة. والسقوط يحمل أكثر من معنى, يتجاوز السقوط العسكري .وللمراقب أن يتنبه كيف إن هاتين المدينتين جد واجتهد فيهم العقل واليد الصهيونيان ذاك يخطط ويرسم وذاك يهدم ويبطش . وبين التخطيط والتنفيذ تختلف أنواع المعاناة , لا سكن كريم ولا معيشة لائقة والإجرام مستفحل . ولكن ما الذي يجعل كل واحدة تختلف عن الأخرى ما هو إلا اختلاف شكلي لا اختلاف في المضمون .
في كل مرة تأملت فيها القدس تطرأ على مخيلتي صورة شيخ عجوز قد خطّ الدهر على جسده علامات وفي كل علامة قصة عذاب , وسط غيمة من الدخان ما زلت أجد القدس تأبى الذل والمهانة رغم ثقل الواقع الأليم (أعلى نسبة تسرب من المدارس وأعلى نسبة إدمان على المخدرات) وهي ما زالت واقفة على قدميها تعلم الدنيا معنى البقاء والصمود كيف لا وفيها أم كامل رمز البقاء والتي ما تراجعت رغم هدم خيمتها عشرات المرات , كيف لا وفيها ثلاثة نواب شرعيين محاصرين وآخر مسجون رافضين قرار الإبعاد والتهمة انتخابهم بشكل ديموقراطي !! , كيف لا وفيها 80 أسير حكم عليهم بالسجن حتى آخر شهيق وزفير (مدى الحياة) منهم 29 شاب لم تتجاوز أعمارهم 23 حين القي القبض عليهم أبرزهم تيسير سليمان من بيت حنينا وهو لم يتجاوز سن 17 عشر من عمره , ناهيك عن التهجير القائم في سلوان والشيخ جراح والبلدة القديمة ومصادرة اكبر مقبرة في فلسطين وهي مقبرة مأمن الله .
لا يختلف واقع يافا عن هذا السيناريو إذ أنّ الاستيطان والإخلاء ومصادرة الأراضي والمقدسات قائمة على قدم وساق ولكن سياسة المرحلة هي" سياسة "לייט" ، إن صح التعبير، وما اعنيه أن المؤسسة الإسرائيلية لم تجد التصدي لما تحيكه كما وجدته في القدس ،فالمخطط يجري والناس نيام , سكارى "بالتعايش" الكاذب وأصحاب الرأي قد لعب بهم أصحاب المصالح، حيث جعلوا ميدان التصدي "بسلاح الشكوى" نسوا أن الشكوى لغير الله مذلة والمؤسسة في نشوة إذ المخطط ساري بلا عوائق فردها التلطف والتذبذب الماكر , والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ولكني سأذكر عينة منها وابدأ بسياسة البلدية وهي إحدى مؤسسات الدولة والتي تكرمت علينا بخدماتها من "شفط" ميزانيات المدارس وإقامة حفلات وكرنفالات "التعايش" التي تحمل رسالة مطمئنة عن إمكانية العيش بهدوء في يافا , وللبلدية رجالاتها القائمون على تفصيل المناقصات على حجم المقربين من الطيار خولدائي .
أما الشرطة التي تصر على لقاءات الود والحوارات الملائكية بهدف "التعرف" على السكان والذي لم أجده في أي دولة ديموقراطية تحترم فصل السلطات فكيف لنا أن نجلس مع جهاز تنفيذي لا يملك القرار في شيء (غير إذلالنا والتهجم على الشباب العرب ) , والشيء الذي أكده قائد لواء المركز في الاجتماع الأخير بعد درس مطول في الديموقراطية تلاه على أسماع الحضور مفاده أنّه لا يمكن أن يمنع أي مواطن من مزاولة أي نشاط قاصداً المستوطنين في البلد , وكما أكد مرارا وتكرارا أن إسرائيل دولة قانون , رداً على من اشتكى أن الشرطة تتعمد تحرير "المخالفات" دون تسهيل المرور , ووسط هالة من التبريكات "لقائدنا" الجديد بقي أن اذكر أنني لم أشارك في هذا الاجتماع عن أي إطار أو جماعة كما يحلو للبعض أن يصور الأمر , ولو صح ذلك أليس من حقي وحق من "أمثل" أن يفسح لي المجال في إبداء رأي خلال إدارة الاجتماع ؟.
الخلاصة انه بموجب هذه المعطيات علينا أن نركز جل اهتمامنا في قضايا المجتمع التي تحفزه على النهوض من حالة السبات , الحافز الذي جعل أم كامل ترفض الترحيل والحافز الذي جعل المتظاهرين الأسبوع الماضي يتصدون لمناقصة العميدار حيث ضربت امرأة على رؤوس الأشهاد ولم يحرك احد ساكن , لست أقول أن نقاطع أو لا نقاطع ولكني أقول أن ممارسة مثل هذه السلوكيات تضفي الشرعية على الشرطة في أن تمارس قمعها وبطشها الوحشي وتمنح المؤسسة الإسرائيلية صبغة الديمقراطية وهي بلا شك أبعد من تكون ديمقراطية .
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]