ما حدث بالأمس في يافا كان كارثة، كارثة على جميع المستويات، كارثة لا يمكن وصفها.
يوم أمس، في ساعات المساء، تم إطلاق النار على وليد أبو سيف، الطفل الذي يكاد يبلغ من العمر نحو خمسة أعوام، وأصيب في رأسه، ويتوجب علينا جميعا، في مثل هذا النوع من الحوادث، أن نسأل أنفسنا: هل السلطات هي المسؤولة أم أنه نحن، المجتمع العربي. لا يمكننا أن نعزل الحدث عن السياقات السياسية التي أتاحت حصول الأمر. بإمكاننا أن نتورط في سرد التفاصيل التقنية وتحليل ما حدث، لكن كل هذا سيكون فعلا هامشياً إن قيس بنتائج الحدث، نتيجة تمثلت في إطلاق الرصاص الحي على رأس طفل في الخامسة من عمره.
علينا أن نعيد ونكرر هذه الجملة مرارا وتكرارا لكي ندرك مغزاها بشكل عميق، أن تكون عربيا في دولة يعدّ فيها وجودك، مجرّد وجودك، "تهديدا ديموغرافيا"، في ظروف تتذكر فيها الشرطة أن وظيفتها تتمثل في حماية المواطنين حين تحصل مأساة وحين يتكاثف الضغط الشعبي بسبب إخفاقها في تأدية مهماتها فقط. رغم ذلك، علينا أن نتذكر أن طفلا في الخامسة من عمره أصيب، بإطلاق الرصاص الحي في رأسه.
في ظل وضع تتخلى فيه الدولة عن مواطنيها، لأنهم لا ينتسبون إلى العرق المناسب، وضع تخلق فيه الدولة حالة فوضوية في المجتمع العربي لا سيادة للقانون فيها، مجتمع لا يضمن القوي فيه بقاءه فحسب، بل يملك الحق في تحديد المزاج الاجتماعي، تكون هذه هي النتيجة: طفل في الخامسة من عمره، يتلقى رصاصة في رأسه.
لقد تحدث زعماء المجتمع العربي، المرة تلو الأخرى، رجال دين، سياسيين، ونشطاء سياسيين، مهاجمين ظاهرة السلاح والزعرنة، وطلبوا من الشرطة في المرة تلو الأخرى القيام بما يتوجب عليها فعله: حماية المواطنين العرب وجمع السلاح غير القانوني المنتشر في المجتمع العربي، وفي المرة تلو الأخرى، قامت الشرطة بدلا من القيام بواجبها، بغض نظرها، بل وهاجمت القيادات العرب، وهذه هي النتيجة: لقد جرى إطلاق النار على رأس طفل يبلغ من العمر خمسة أعوام. في وضع تقوم الدولة بشكل حثيث بالتحريض على مواطنيها العرب وتهاجمهم، تكون هذه هي النتيجة، إذ أن الشرطة بجميع مرتباتها، الشرطة بجميع مستويات تعاملها، بمستوى صفر من التعاطف تجاهنا، الشرطة تفضّل خلق حالة "ردع" تتسبب في رعب المجتمع العربي، وفي شعوره بأنه متروك وفاقد للحماية، وهذه، في النهاية، هي النتيجة: لقد أطلق الرصاص الحي على جمجمة طفل يبلغ من العمر خمسة أعوام!.
لكننا نحن أيضا، المجتمع العربي، في هذه الحالة، مذنبون أيضا، لأنه علينا نحن أيضا أن نكون مسؤولين عن الحالة التي وصلنا إليها. لقد آن الأوان لأن نعترف بأننا قد فشلنا نحن أيضا، لأننا قد فضّلنا غضّ بصرنا، وأوهمنا ذواتنا بأن الوضع القائم هو مستدام، بأننا قادرون على العيش على هذا النحو، ولم نطالب بحقوقنا ولم نقف في مواجهة الدولة والشرطة التي ترفض بشكل قاطع القيام بدورها، وإجبارها على الاعتراف بحقنا الطبيعي في العيش بكرامة، آمنين، وفي منع حالة يعيش فيها أي طفل، أي رجل، أية سيدة، أو أي كبير في السن، في ظل الخوف. وقد فشلنا نحن أيضا لأننا قد أوهمنا أنفسنا بالصورة الرجولية الكاذبة التي يمكن لنا فيها أن ندافع عن أنفسنا وحدنا بواسطة ردود الفعل العنيفة، الصورة الرجولية التي يتوقع، بحسبها، من الرجل العربي أن يكون قويا، عنيفا، وإن تطلب الأمر: أن يكون مستعدا لأي سيناريو، هذه كذبة كبيرة، لأن نتيجة هذا التخيل هو التالي: لقد جرى إطلاق النار على طفل يبلغ من العمر خمسة أعوام، في رأسه.
أنا أعترف بأن المجتمع العربي وحده غير قادر على اجتثاث ظاهرة العنف، كما أن هذه ليست وظيفته هو، فمغزى الدولة الحديثة الأساسي هو احتكار استخدام العنف، بمعنى أن الدولة وحدها لديها الحق في فرض القانون من خلال الشرطة. لا يملك المجتمع العربي جهاز شرطة مستقل، وكل محاولة من جانبنا لفرض النظام أو معاقبة من يستحقون العقاب فإن الأمر يعد تجاوزا للقانون، والادعاء القائل بأننا مذنبون في خلق هذه الحالة هو ادعاء منبعه تهرب الدولة من مسؤوليتها عن الحالة، واتهام الضحية. لكن وظيفتنا في ظل وضع تركتنا فيه الدولة لمصيرنا يتمثل في إعادة خلق هوية الرجل العربي، هوية نتعلم فيها التعرف على مجتمعنا وحبه، هوية يقاس فيها منسوب الرجولة بقدر ردّنا الجميل لمجتمعنا، هوية نتعلم فيها أن يغفر أحدنا للآخر، ونعمل وفقها من أجل إسناد المستضعفين في المجتمع.
المطلوب منّا هو هوية رجولة جديدة ترتكز على احترام الذات والمسؤولية المجتمعية التي تدفع الدولة ومؤسساتها إلى الاعتراف بحقوقنا، مسؤولية مجتمعية لا تخشى من الخروج إلى الشوارع لكي تطلب الحق الأساسي المتمثل في العيش بكرامة. لأنه إن لم نقم بذلك، فإننا سنعيش في حالة نرى فيها طفلا لا يتجاوز عمره الخمسة أعوام، يتلقى رصاصة في وسط جمجمته.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]