ليسَ منْ عادتي أنْ أستمعَ للراديو، رغم أنّه كانَ في مرحلةٍ معينةٍ منْ حياتي نافذتي التي أطلُّ من خلالِها على عوالمَ أخرى، وقدْ أصبحَتْ حاسةُ السمعِ في عصرِنا شبهَ قاصرةٍ عنْ أداءِ وظيفتِها إنْ لم تُعِنْها العينُ على ذلكَ، فالصورةُ تسبقُ الكلمةَ ( وقدْ تُلْغيها كما هو الحالُ في معظمِ الأغاني العربيّة).
ولكنكَ حينَ تجدُ نفسَكَ مُسافراً لمسافاتٍ بعيدةٍ، أنتَ والطريقُ وسيارتُكَ؛ لا تجدُ سوى الراديو كيْ يؤنسَ وحدَتَكَ، ويطرُدَ عنْ أجفانِكَ نُعاساً خَلَّفَتْهُ ساعاتٌ منْ عبوديةِ العملِ... وقدْ يحالفُكَ الحظُّ إذا وَجَدْتَ محطّةً عربيّةً تُخاطبُ عقلَكَ بمعزلٍ عنِ التفاهاتِ الكلاميَّةِ والنصوصِ المستَهْلَكَةِ، وألّا يكونَ المذيعُ أوِ المذيعةُ جاءا لِيُقدِّما للمستمعين درساً في الميوعةِ والدلالِ، وسيكونُ "أبو زيد خالك" إذا تواصلَ البثُّ تحتَ كلِّ الجسورِ وفي كلِّ الأنفاقِ ولم يصلْكَ مُشوّشاً مصحوباً "بمؤامرةٍ لاسلكيّةٍ" لِطَمْسِ نورِ الحقيقةِ على غرارِ المؤامراتِ التي يُحذّرُ مِنْها الطُّغاةُ العربُ كلَّما اهتزَّ عرشُ ممالِكِهِمْ الشَّيْطانيّةِ.
ولمْ يكنْ أبو زيد خالي (ولا حتّى المهلهل عمّي..) في طريقي إلى حيفا قبلَ تسليم شليط بيومٍ ( أصبحَ "تسليمُ شليط " تقويماً عالمياً وعربيّاً... أخشى أنْ يُزاحمَ تقويمَ "سنة الثلجة" الذي اعتادَ أجدادُنا على اسْتخدامِهِ فيصبحُ في قاموسِنا التراثيِّ: قبل شليط بعام... وبعد شاليط بعامين ... ) نعمْ لم يحالفْني الحظُّ بمحطّةٍ إذاعيّةٍ غيرِ مُتآمرةٍ على أذواقِنا وعلى تراثِنا وعلى... أغانينا حتّى..! ومعظمُ المحطّاتِ العربيّةِ المحليّةِ لا تحيدُ عنْ هذا النَّهجِ..
كانَ حرفُ السينِ مُتآمراً هوَ الآخرُ على لسانِ المذيعةِ، فكلّما حاولَتْ تَطْويعَهُ؛ هربَ منْ بينِ أسنانِها مَصحوباً بصفيرٍ حادٍ مزعجٍ. وبينَ "السينِ والجيمِ" كانتِ المذيعةُ تنتقلُ بالبثِّ بينَ المراسلينَ المنتشرينَ في قريةِ شليط وعلى المعابرِ، وعندَ عوائلِ بعضِ الأسرى المحرَّرينَ، أمّا المراسلونَ فكانَ جلُّهُمْ منَ الناطقينَ بالعبريّةِ فجاءتِ العربيّةُ على لِسانِهِمْ مُصطنعةً ومُتكَلِّفةً إلى حدٍّ تأنفُهُ الآذانُ.
وفي نهايةِ تقريرٍ لأحدِ المراسلينَ منْ قريةِ شليط يصفُ فيهِ الاستعداداتِ لاسْتقبالِهِ ، أعلنتِ المذيعةُ ، وبحنوٍّ زائدٍ، عنْ أغنيةٍ تُحاكي الواقعَ المليءَ بالشوقِ والحنينِ، أغنيةٍ لهيام يونس تقولُ كلماتُها" يا حبيب الدار طوّلت المشوار.. إمتى ترجع يا حبيبي ونفرشلك الدار.. أهل الدار كبار وصغار غنولك يا حبيب الدار.." طبعاً لمْ يَسْتشِرْ أحدُهُم هيام يونس قبلَ هذا الإهداءِ، لوْ كانتْ على قيدِ الحياةِ.
لمْ أتمالكْ نفسي ولا دموعي وصورُ وحكاياتُ الأسرى الذينَ غيّبتْهُم السجونُ عنْ أحبّائِهِمْ وبيوتِهِمْ تداعبُ خيالي، وحكاياتُ أولئكَ الذين لمْ تشملْهُمِ الصفقةُ طَغَتْ على كُلِّ صوتٍ خلا صوتَ الألمِ والفخرِ.
وفي طريقِ عودتي مِنْ حيفا، والمساءُ يحنو على الأرضِ وأولى مصابيحِ السماءِ تخرجُ منْ مخدَعِها خَجْلى، نظرتُ إلى السماءِ وأصغيْتُ، فَخِلْتُها تعزفُ لحناً سماوياً لكلماتٍ كلُّها إباءٌ وعزّةٌ.." لا ضيرَ عليْكُمْ يا أسْرى الحريّةِ والكرامةِ، إنْ كانتْ هيام يونس تشدو رغماً عنها لشليط فإنّ السماءَ كلَّها تشدو للأسرى.."
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]