إنها العلاقة بيننا وبين الضبّ والضّبع، لكنها العلاقة التي تتراوح بين الحقيقة وبين الأسطورة، بين الدين وبين الخرافة لكنها العلاقة التي تدور حول التبعية والانقياد للآخر مع أننا نحن الأمة التي أراد الله سبحانه لها أن تكون أمة متميزة عن غيرها وصراطها مستقيمًا واضحًا {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون} آية 153 سورة الأنعام. فما بال أمتنا التي أوصاها ربها بسلوك طريق واحد، وإذا بها تصبح تسلك مسالك كثيرة وتسير خلف كل ناعق وتجري خلف كل منادٍ.
## جحر الضبّ
لقد كتب الله سبحانه لرسالتنا أن تكون آخر الرسالات، واختار لها محمدًا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل وأكرمها بالقرآن الكريم آخر الكتب، بل إنه سبحانه أمر كل الخلائق أن تتبع دين ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم {إن الدين عند الله الإسلام} آية 19 سورة ال عمران. {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} آية 85 سوره آل عمران.
ولأجل ذلك فقد نزلت الآيات الكثيرة تنهانا نحن المسلمين من أن نتبع غيرنا، ولا أن نتخذهم أولياء لأن العكس هو المطلوب، قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} آية 100 سورة آل عمران. وقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} آية 51 سورة المائدة.
إنه الله سبحانه الذي علم بعلمه الأزلي أننا نحن المسلمين أمة الكتاب الأخير والرسول الخاتم سنزلّ ونضِلّ ونتبع غيرنا وفي هذا خسران الدنيا والآخرة، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقد أعلمه ربه سبحانه أن أمته ستزيغ وتنحرف وتصبح تابعة بعد إذ كانت متبوعة، وتصبح مقلدة لغيرها مع أنها أُريد لها أن تكون الأمة الهادية والرائدة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”.
انه الضبّ ذلك الحيوان الصحراوي الصغير والذي يعرفه العرب جيدًا لكثرته في الصحراء وهو من أنواع السحالي، حيث إشارة حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان على المسلمين في تضيع بوصلتهم وتنحرف وجهتهم ليصبحوا تبعًا لمن سبقوهم من الأمم وتحديدًا اليهود والنصارى حيث يتبعونهم في كل صغيرة وكبيرة وفي كل خطوة كما في الرواية الأخرى للحديث “شبرًا بشبر وذراعًا بذراع” ومن شدة التقليد لهم فإنهم لو دخلوا جحر ضبّ حيث يستحيل دخوله لضيقه وصغره، فإنكم ستحاولون الدخول خلفهم من شدة الانقياد والتبعية دون إعمال العقل والمنطق الذي ينفي إمكانية دخول جحر الضبّ من قبل الإنسان.
إنه الانقياد والتبعية العمياء لمن هم قد فقدوا البوصلة العقائدية والثقافية وحتى الأخلاقية بعد ابتعادهم عن رسالات انبيائهم. إنها الحصانة والمناعة العقائدية والفكرية والأخلاقية التي فقدت عندنا، فأصبح من السهل اختراقنا وأن نصاب بفيروس التقليد الأعمى والسير خلف الآخرين حتى جحر الضبّ.
إنها بشاعة التقليد منا نحن المسلمين وبلوغها أسفل سافلين، وقد حذّر منها صلى الله عليه وسلم لمّا قال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذّة بالقذّة حتى لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه”. بربكم هل سقوط أعظم من هذا السقوط، وهل دياثة أقبح من هذه الدياثة. إنها التبعية إلى عمق جحر الضبّ خلف من لم يعد عندهم معنى لشيء اسمه الأخلاق والخجل والحياء وحتى الفطرة، وإننا نراهم ونشاهدهم وهم يقبّلون نسائهم في الشارع بل وأكثر من ذلك ممن نقرأ عنهم، وأن من بيننا من أصبحوا يفعلونه.
لا بل إنه السقوط المدوي والولوج أكثر إلى جحر الضبّ لمّا يصل حالنا إلى ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قال: “لتركبن سنن من كان قبلكم، حتى لو أن أحدهم أتى أمه لفعلتموه، وحتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”. نعم لقد عشنا وأحيانا الله لهذا الزمن الأصفر الذي فيه يشاع نكاح المحارم، وفيه اعتدى الأخ على عرض أخته بل أمه بل ابنته، وقد سُئل أحدهم عن سبب اغتصابه لابنته فقال (إنها جميلة جدًا وأنا أولى بالاستماع بهذا الجمال). إنه الانزلاق إلى جحر الضبّ.
وإذا بلغ الانقياد والتبعية والتقليد إلى حد أن يأتي أحدهم امرأته عند قارعة الطريق أو أن يمارس الفاحشة مع اخته، فعند ذلك يسهل ما نراه من جمعيات رسمية تدعو للشذوذ الجنسي بل وتقنينه في الدول، وكذلك من ظاهرة تبادل النساء.
نعم لقد بلغ السقوط في جحر الضب أن أصبح التقليد في اللباس وقصّة الشعر ولبس الحلق في الأذنين للشباب والبناطيل الممزقة أمرًا عاديًا، بل إنه يصبح غير ذي بال أمام السقوط الأكبر. لم يعد ذا بال أن تصوّر إحداهن غرفة نومها وتنشرها على صفحتها على الفيس بوك، ولا أن يظهر زوجان يقبّلان بعضهما ويتعانقان على صفحتهما على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا أن تلبس الفتاة في دولة عربية بلوزة مكتوب عليها ” أنا سهلة I am easy”، أو أن تكون في شواطئ المسلمين في العرب شواطئ للعراة تقليدًا ومحاكاة لغيرهم.
إن إطلاق اللحية هو اقتداء برسول الله عليه وسلم، ولكن العلمانيين ومن ساروا في موكب الضبّ اعتبروها رمزًا للتخلف والتعصب، حتى إذا أصبحت اليوم موضة عند غير المسلمين أصبح الشباب المتهتك من أبناء المسلمين يطلقها باعتبارها موضة ورمزًا للمدنية والحداثة وليست باعتبارها سنة مباركة من سنن الرجولة بل من سنن النبوة على مدار العصور والأجيال، ولقد بدأت تظهر اليوم مشاهد من يطلق لحيته على نصف وجهه الأيمن ويحلق وجهه بالكامل في الشق الآخر. بربكم هل هذا هو الجمال أم أنه القبح بعينه. إن الجمال هو الذي قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “سبحان من زيّن الرجال باللحى”. وإنه الجمال الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال”. وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيّب الريح”.
## كهف الضّبع
رغم أن كثيرين منا لم يروا في حياتهم قط الحيوان الذي اسمه الضّبع، اللهم إلا في حديقة الحيوانات أو في الأفلام الوثائقية، لكن في عقول كثيرين ما تزال راسخة أسطورة وحكاية للضبع في القدرة على أن يسحر ويسلب الإنسان عقله ويشلّ قدرته على التفكير غير إفراز مادة سريعة التأثير على الإنسان فتقعده وتشلّ تفكيره بل ويصبح يسير وينقاد خلف الضبع حتى يصل به الضبع إلى كهف فيفترسه، و صاحب الحظ السعيد هو من يصل عند باب الكهف وهو يجري خلف الضبع فيرتطم رأسه بمدخل الكهف فيسيل دمه، وعندها يصحو ويتحرر من تأثير ما أفرزه الضبع فيرجع وينجو.
مثل هذا الشخص يقال عنه “المضبوع” الذي يسير خلف الضبع من غير تفكير ولا تَبيُّن. ومع أن هذه يمكن اعتبارها من الأساطير والخرافات الشعبية، إلا أن الانضباع بات اليوم سلوكًا لا يختلف عن سلوك جحر الضبّ كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كم من أبناء المسلمين من هم اليوم مضبوعون بالفكر الغربي ونمط الحياة الغربية، بل وحتى بالطعام والشراب واللباس الغربي. لقد أصبح عند هؤلاء انطباع راسخ أن شرب الكوكا كولا وأكل الهامبرغر ولبس الثياب الممزقة وقصّة الشعر الغريبة هي من علامات التطور والرقي، إنه الانضباع بأوضح تجلياته.
ومثل الانضباع في السلوكيات والأخلاق فإنه الانضباع والتبعية في المواقف السياسية والتحالفات العسكرية التي لا تبنى وفق قواعد المصالح المتبادلة، وإنما هي التي يفرضها القوي على الضعيف والسيد على المسود وصانع السلاح على من يشتريه. إنه انضباع البعض بروسيا وانضباع البعض الآخر بأمريكا، ليصل إلى حد أن تصبح روسيا هي ولي أمر بشار وتصبح أمريكا ولي أمر آل سعود وغيرهم، ولنصبح في النهاية نحن العرب والمسلمين مختبرًا لتجارب أسلحتهم حيث الضحايا والقتلى هم العرب والمسلمون.
مع الأسف إن عرب اليوم هم مثل عرب الأمس في سلوك الانضباع، فإن عرب الأمس كانوا إذا هاجم الذئب قطيع أحدهم فإنه كان يتمنى أن لو كان في المرعى ضبع كذلك، لأنه إذا اجتمع الذئب والضبع فإن كلًا منهما سينشغل بالآخر فيتصارعان وتسلم الأغنام، حتى أن العرب كانت تدعو وتقول لما تخرج قطعانهم إلى البرية (اللهم ضبع وذئب) أي لا ترسل على قطعاننا ذئبًا لوحده ولا ضبعًا لوحدها، ولكن ليكن ضبعًا وذئبًا حتى تسلم الغنم وقد قال في هذا الشاعر:
تفرقت غنمي يومًا فقلت لها يا رب سلّط عليها الذئب والضبعا
ها نحن قد تسلطت علينا روسيا وأمريكا ليست لتتصارعا وننجو نحن، وإنما هو التنسيق الكامل بينهما في تقاسم النفوذ وفرض مزيد من الاذلال والنهب لدولنا وشعوبنا، حتى في سوريا فإنه التوافق ليس فقط بين أمريكا وروسيا وإنما بين روسيا وإسرائيل.
إنه لذلنا وصَغارِنا ونحن نسير مضبوعين خلف الآخرين، وإذا بنا نتقلب بين جمر روسيا ونار أمريكا، وليس أننا نمضي خلفهم حتى باب الغار كما يفعل المضبوع فإذا سال دمه استيقظ وصحى من غفلته، وإنما نحن الذين كلما ازداد سفك دمنا منهم وازداد قتلانا منهم، ازددنا لهم تبعًا حيث تقسيم الأدوار بينهما.
إنه الانضباع والسير باتجاه واشنطن وموسكو دون أن ننتبه أن السلامة كل السلامة، والعزة كل العزة في أن يكون اتجاه سيرنا نحو مكة والمدينة كما قال شاعرنا :
واشنطن من مكة ذرة وموسكو من طيبة مثل الهباء
فمن مكة شع نور الهدى ومن واشنطن شاع سفك الدماء
إن استمرار مراوحتنا بين جحر الضبّ وكهف الضّبع ليس قدرًا لا يمكن تغييره، وإنما هو بفعلنا وسلوكنا وبما صنعته أيدينا ونفوسنا المهزومة البعيدة عن الفهم الصحيح لدينها وهدي رسولها صلى الله عليه وسلم، إنه هو الذي حذّرنا من تقليد الآخرين ومحاكاتهم والانبهار بهم إلى حد نفي عقولنا وتجميد تفكيرنا وشلّ إرادتنا. إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي ناداه وناجاه الشاعر وهو يرى أمته تسير على غير هديه وتخالف ما جاءها به فأصابها ما أصابها:
محمد هل لهذا جئت تسعى وهل لشرعك ينتمي همل مشاعُ؟
أإسلام وتغلبهم قرود وآساد وتغلبهم ضباعُ؟
شرعت لهم سبيل المجد ولكن أضاعوا مجدك السامي فضاعوا
لا وألف لا، بل ومليون لا، فلسنا كذلك ولن نكون أبدًا لقمة سائغة في كهف الضبع، ولن نرضى الانبطاح والتقزم حتى ندخل في جحر الضبّ وإنما نحن الذين استيقظنا وصحونا والحمد لله، وفهمنا ديننا الفهم الحق الذي يحرم علينا ولا يقبل لنا أبدًا سلوك طريق جحر الضبّ ولا كهف الضبع.
إننا لن نرضى السير إلا على منهاج الكتاب والسنة، ولن نرفع راية إلّا راية الإسلام، ولن نهتف أبدًا إلا باسم محمد صلى الله عليه وسلم. فللذين يأملون باستمرار تيهنا وضياعنا ولهثنا خلف سرابهم، وللذين استمتعوا وهم يروننا ننبطح حتى ندخل جحر الضبّ الروسي ونلهث حتى ندخل كهف الضبع الأمريكي، لهؤلاء جميعًا ولعكاكيزهم وخدامهم من أبناء جلدتنا نقول:
ولم تروا بعد منا أمة همجًا تمضي سفينتها من غير ربان
ويل لمن حسبونا قطعة نُظمت من غير قافية من غير أوزان
معاذ ربي أن تنحل عروتنا أو أن نتيه وفينا نور قرآن
نعم انتهى زمن التيه والضياع
نعم ابتدأ زمن الريادة والسيادة
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]