حامد اغبارية
لو سألني شخص: هل تقبل بشخصية علمانية التوجُّه، حتى لو كانت امرأة، أن تكون حكما في تقييم موقفك الشخصي والانتمائي من مختلف القضايا؛ لتعرف إن كنت على حق أم منحرف البوصلة، أم مخطئا، أم تسير في طريق مجهول؟ لأجبت دون تردد: نعم! يكفيني أن أسمع تلك الشخصية الموغلة في العلمانية، المتغوّلة في هجومها على التيار الإسلامي، المتقنة لدورها الفتنوي وهي تقول مخاطبة للداعين إلى مؤتمر مناقشة “الميثاق العام للحركة الإسلامية الجنوبية: “من خلالكم رأينا الإسلام الحقيقي، بعد أن شوّه صورته المتشددون والقمعيون”!! دون أن يتصدى لها أحدٌ منهم ويوقفها عند حدّها، عندها أعلم علم اليقين أن الطريق الذي اخترتُه هو الطريق الصحيح.
كان يمكنهم أن يُخرسوا تلك الأصوات، لأنهم يعلمون جيدا أن وصف “التشدد والقمع” يقال عنهم على تلك الألسن ذاتها التي كالت لهم المديح، ولكن في أماكن أخرى، ومناسبات أخرى، ذلك أن تلك الألسن ترفض مبدئيا وجودهم، ووجود غيرهم من التيارات الإسلامية، وتتمنى زوالهم نهائيا. لكن أن تبتسم، وتهز رأسك راضيا موافقا، وأنت تصافح الكف بالكف، فهذا خطير! وهل سأل أحدهم نفسه: ما هو “الإسلام الحقيقي” الذي تقصده هذه الأصناف من الناس؟!! الجواب ربما يكون ما همس به أحد الصحافيين الذين حضروا ذلك المؤتمر: (إنها تريد إسلاما لايت…). وفي هذا ما يكفي!!
لقد اخترت هذه المقدمة للمقال تحديدا عن سبق قصد مني، حتى يفهم من يريد أن يفهم أن هناك من يريدون أن يصلوا بدعوتهم إلى طريق مجهول، بل هو طريق معلوم بالضرورة، تحدد أبعاده وشكله ضرورات انتخابية بحتة، ولا شيء غير ذلك في الحقيقة، حتى لو كان ذلك تحت عنوان” تجديد الخطاب الديني”، وما شابه ذلك!!
هل هو تجديد للخطاب الديني فعلا، أم تنازل عن الخطاب الإسلامي الواضح والصريح، لصالح خطاب سياسي مرتبك يميزه الذوبان في الآخر، حتى لو زعم من زعم غير ذلك؟ وما المقصود بتجديد الخطاب الديني؟ أهو على غرار خطاب السيسي مثلا، أم السبسي، أم التيار العلماني المناهض لكل خطاب ذي صبغة إسلامية، حتى لو كان من النوع “اللايت” جدا، على الطريقة الأمريكية والإسرائيلية؟!
نريد من الإخوة أن يشرحوا للجمهور ماهية ذلك الخطاب بالتفصيل، كما يشرحون برامجهم الانتخابية، فهذا حقٌّ للجمهور، كما ذاك حقٌّ للجمهور، ولا مكان هنا للمواقف الضبابية أو “الرمادية”… أو كما وصفها الصحافيون الذين حضروا اللقاء: “مواقف تتسم بالميوعة وعدم الوضوح”… فأنا عندما أسمع مقولة: إن التجديد الذي نقصده هو تجديد قراءة النصوص والأحاديث، وليس تغيير الآيات والأحاديث… أحتار في أمرى: أأضحك أم أبكي، أم أسجد سجود شكر لله تعالى أن جنّبنا مثل هذه المنزلقات.
ولعله من الواجب أن نسأل هنا سؤالا شديد الخطورة، حول مقولة وردت في ذلك المؤتمر، مفادها أن “أزمة الحركة الإسلامية تكمن في أنها فقط للمسلمين، وحتمًا سنتجاوزها، لأننا سنخاطب شعبنا وكافة مركباته المسيحية والدرزية، وسنخاطب أيضا المجتمع اليهودي”. تقف مشدوها أمام هذا التوصيف الاستخذائي شديد الوضوح. هذا بالضبط هو “التجديد في الخطاب” الذي يتحدثون عنه؛ التنازل عن الكثير من المرتكزات الأساسية التي نشأت عليها وترعرعت الحركة الإسلامية.
والسؤال: قبل هذا التجديد “الإبداعي” هل توقفت الحركة الإسلامية عن مخاطبة كافة أبناء شعبنا بمسلميهم ومسيحييهم ودروزهم في لحظة من اللحظات؟ وهل توقفت عن مخاطبة المجتمع اليهودي؟ ما الذي تغير إذًا؟؟؟ الذي تغير هو مضمون هذا الخطاب، الذي نقل روح الإسلام بفاعليتها ونجاعتها ونجاحها في خدمة المجتمع في كافة المجالات، إلى جميع تلك الشرائح، وأوضحت التصور الإسلامي لحل الأزمات، ونيل الحقوق في كل شيء، كمجتمع فلسطيني في الداخل، وكشعب فلسطيني له قضية، وكعالم عربي وكأمة إسلامية، إلى مضمون يتسم بالتنازل عن إسلامية الخطاب الواضحة، لصالح خطاب أقرب إلى العلمانية منه إلى الإسلامية.
هل فعلا أن أزمة الحركة الإسلامية تكمن في كونها للمسلمين فقط؟ أم أن الأزمة التي يتحدثون عنها تكمن بالذات في كونها (وأقصد الجناح الجنوبي) فشلت في تسويق الخطاب الإسلامي من خلال إنجازات على أرض الواقع؟ وما معنى “أنها للمسلمين فقط”؟ هل المقصود أن أعضاءها وأنصارها ومؤيديها هم من المسلمين، أم أن خطابها إسلامي المضامين، أم أنها تخدم فقط المسلمين دون غيرهم؟
إن كان المقصود الأعضاء والأنصار والخطاب، فهذا أمر مفروغ منه، كونه واقعا يميز كل التيارات والأحزاب الفاعلة في المجتمعات المختلفة، فهو أمر طبيعي جدا، وتجد مثله في الأحزاب اليهودية العلمانية والدينية، وفي الأحزاب العربية مثل الجبهة والتجمع، والتي يشكل العلمانيون (بكل أصنافهم وتوجهاتهم) الغالبية العظمى من أعضائها وأنصارها ومؤيديها، فما الغضاضة في هذا؟
أما إن كان المقصود بذلك أنها تخدم المسلمين فقط، فهذا يجانب الصواب ويجافي الحقيقة، والواقع يقول غير هذا، كما أن الواقع يقول إن الحركة الإسلامية فتحت كل أبواب الحوار مع كافة الشرائح في مجتمعنا، دون أن تتنازل عن ثوابتها والبوصلة التي توجهها. فهل المقصود إذًا إفراغ التيار الإسلامي من مضمونه الذي سار عليه كل تلك السنوات، وبفضله حقق ما حقق من نجاحات وإنجازات يشهد لها الخصم قبل الصديق؟ ألا يعلم هؤلاء الإخوة أن مجرد حمل اسم “الحركة الإسلامية”، حتى لو كانت ممارساتها كلها علمانية بحتة، هو السبب في مناهضة الأطراف المختلفة لها، لأنها لا تريد للخطاب الإسلامي مكانا في حياة الناس، حتى ولو بالاسم، وأن هذه الأطراف تطمع دائما بالمزيد من التنازلات، دون أن تتنازل هي عن مطلبها النهائي، وهو شطب الاسم والمضمون واختفاء من يحملونهما عن الساحة نهائيا؟ فما الأجدر إذا؟ تجديد الخطاب على تلك الشاكلة التي تعرض في المؤتمرات؟ أم حماية الخطاب من الذين يريدن إفراغه من مضامينه ومن ثمّ القضاء عليه واجتثاثه؟
لقد لخص أحد الإخوة الموقف وحقيقته بتدوينة على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، حين خاطب فضيلة الشيخ كمال خطيب (دون أن يذكر اسمه واكتفى بنعته بقوله “يا هذا”!! قمة الأدب في الخطاب!!) قائلا: “سأل أحدهم بالأمس، إلى أين يريد هؤلاء الوصول بدعوتهم؟ ونحن نقول لك يا هذا، بكل تأكيد ليس إلى حيث وصلت أنت وجوقتك”!!
معنى ذلك، وأنا أزعم أنني أفهم المرامي وما وبين السطور وما وراءها، أن ذلك التجديد في الخطاب يسعى إلى الإبقاء على وجود الإطار بكل ثمن، خوفا من الوصول إلى الحظر الإسرائيلي، الذي وصل إليه الشيخ كمال خطيب وجوقته. تلك “الجوقة” التي ملأت الدنيا نشاطا وعملا وعطاء وبناء وتعميرا وتواصلا مع الناس ومع قضايا الأمة، وعلى رأسها قضية القدس والأقصى، حتى أوصلتها إلى العالمية، وكانت هي (الجوقة) السبب الأول في إيقاظ الأمة من غفلتها فيما يتعلق بقضاياها الكبرى، وكان هذا بالضبط هو السبب في وصول “الجوقة” إلى ما وصلت إليه!! لكنّ العيون المغبّشة لا ترى إلا من ثقب الإبرة، وتعتبر كل هذه الأعمال والآثار والنتائج مجرد جوقات!!
ولا يمكن الفصل بين هذا، وبين ذلك الاجتماع الذي عقد يوم الأحد بين قيادات الشرطة الإسرائيلية وبين قيادات من الجناح الجنوبي وعدد من أئمة المساجد “لمناقشة” سبل مواجهة العنف في مجتمعنا. فهو أيضا – فيما أرى- يندرج تحت ذات الخطاب الجديد، الذي يسعى إلى الإبقاء على الموجود، في تلك الأجواء الانتخابية..
ودون الخوض في تفاصيل ذلك اللقاء، الذي لم يكن له لون ولا طعم، وإن كانت له رائحة تزكم الأنوف، فإن غاية ما حققه أنه بيّض صفحة الشرطة، التي تمارس القمع ضدنا، وقد مارسته في نفس اليوم الذي عقد فيه ذلك اللقاء، ضد المصلين في المسجد الأقصى المبارك، ومارسته ضد أبناء مجتمعنا الفلسطيني في الداخل طوال كل السنوات الماضية. ولن تشفع كل البيانات “التوضيحية” في الدفاع عن المشاركة وعن الموقف، ولن تفيد كل التبريرات. فالجميع يعلم أن الخطاب المتعلق بالعنف، يطالب الشرطة صباح مساء بتحمل مسؤولياتها، بل وأكثر من ذلك يحملها المسؤولية الأولى عن استشراء العنف، سواء من خلال المؤتمرات أو من خلال لجنة المتابعة، أو من خلال الفعاليات الحزبية والشعبية المختلفة، ومن المؤكد أن هذا الخطاب يصل الشرطة دائما، كما يصل إلى أعلى هرم المستوى السياسي الإسرائيلي. فما الحاجة إلى مثل هذه اللقاءات؟ يجب إضاءة ضوء أحمر ينبه الغافل. وأنت – ويرحمك الله- تستطيع أن تقرأ البيان الصادر عن الشرطة بخصوص ذلك اللقاء، كي تفهم وتدرك وتستوعب أن الهدف من وراء اللقاء هو إحداث عملية اختراق، وكان هَمُّ معالجة العنف آخر ما يفكرون به.. ولعل الحديث تكون له بقية.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]