كان مالك بن دينار رحمه الله يقول: “ليت أحدكم يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله”.
ما أعظمها من معانٍ اجتمعت في عبارة هذا العالم الفاضل والرجل الصالح الذي نظر إلى أهل زمانه فوجد فيهم التهاون في أوامر الله سبحانه والتعدي على حدوده وعدم الوقوف عند أوامره ونواهيه والاستهانة في الوقوع بالذنب، وهذه مما تفسد على المرء دينه، بينما هو يراهم في المقابل وقد اهتموا كثيرًا وأشغلوا أنفسهم في أناقة مظهرهم وجمال لباسهم ونظافة نعالهم، بأن تكون دائمًا مخصوفة وغير ممزقة ونظيفة غير متسخة ولا عيوب فيها ولا عليها.
لقد قال هذا لأهل زمانه وهو زمان التابعين والمقتفين أثر الصالحين والمجاهدين، وما زالوا قريبي عهد من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، فماذا عساه سيقول لأهل زماننا يا ترى؟
إنها الإشارة منه لضرورة الاهتمام بباطننا كما نهتم بظاهرنا، وأن نصلح عيوبنا الداخلية التي لا يراها الناس مثل حرصنا على مظهرنا وجوارحنا الخارجية التي يراها كل الناس.
ما بال أحدنا لا يخرج من بيته إلا وقد لبس أحسن ثيابه، وإذا حصل أن اتسخ ثوبه لأي سبب كان أو بسبب عرق تصبب من جسمه فإنه يسارع لخلعه وغسله واستبداله بثوب آخر بعد أن يكون قد اغتسل كله. وما بال أحدنا إذا انتعل حذاءه فإنه يحرص على أن يكون نظيفًا بل ذا بريق ولمعان. وما بال أحدنا إذا اتسخت سيارته بفعل الغبار في الطريق أو لأي سبب آخر فإنه يسارع لتنظيفها وغسلها بيديه أو يرسلها إلى محلات غسيل السيارات لإزاله كل ما علق بها من غبار ولتعود جميلة نظيفة براقة، فليتنا في منطق الإمام مالك بن دينار وهو منطق الحق والصدق أن نهتم بقلوبنا وباطننا وديننا مثل اهتمامنا بمظهرنا ولباسنا وحذائنا وسياراتنا.
ولعل مثالًا آخرَ وتشبيهًا قريبًا يصلح أن نسوقه بين يدي الأخوة القراء والأخوات القارئات، خاصة وأننا في شهر شباط الشهر الذي فيه تبدأ الأشجار تفيق من نوم شتائها حيث تظهر البراعم استعدادًا لظهور الأوراق ثم الأزهار الجميلة والثمار اليانعة، وأن صاحب كل حديقة أو بستان إما أن يفعل ذلك بيديه إن كان صاحب خبرة أو أن يستأجر الشخص المتخصص “الجنايني” الذي يعمل في الجنينة أو “البستنجي” الذي يعمل في البستان.
إنه الذي يقلّم أغصانها ويزيل الحشائش والأعشاب الغريبة والضّارة التي غزتها خلال الخريف والشتاء، فأصبحت قريبة إلى الاهمال بل قبيحة المنظر بل ولعله يزودها بالأسمدة العضوية التي تقوّيها وتعيد لها النضارة من جديد.
إن مثل تقليم الأغصان وتهذيبها وإزالة الزائد أو اليابس الجاف منها واقتلاع الأعشاب الضّارة البرية الغريبة من البستان لتعود إليه نضارته هو مثل إزالة الذنوب وتطهير الجوارح وغسل باطننا منها لتعود إليه نضارته وللدين صفاؤه، وإلا فإن قلوبنا وديننا ستفسده الذنوب مثلما تفسد الحشائش البرية والأغصان الجافة حدائقنا وبساتيننا.
أيها الأخ الحبيب، هل أصبح حذاؤك وقميصك وسيارتك وحديقتك أغلى عليك وأكرم عندك من دينك ومن قلبك، حاشاك وإني أُعيذك وأُعيذ نفسي أن نكون كذلك، لأنه ما فائدة كل ذلك في غياب حالة الإيمان والأنس بالله وطاعته سبحانه والسير على طريقه.
ولقد صدق من قال: “كم من مُبيّض لثيابه ومسوّد لقلبه”. نعم إنه الحرص على الملابس النظيفة البيضاء تزين ظاهرنا ولكنه الإهمال للقلوب تسودها الذنوب. فكما علينا أن نمسح أحذيتنا وأجسادنا من أوساخها وعيوبها، فعلينا أن نمسح ونغسل قلوبنا من ذنوبها حتى لا تصبح سوداء، وكما قال الشاعر:
ما بال قلبك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسولًا من الدنس
ترجو السلامة لا تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
# لصوص البيوت ولصوص القلوب
ما أصدقها مقولة من قال: “سرق اللصوص بيته فبكى شهرًا، وسرق الشيطان قلبه فما انتبه”. إنها الغفلة الحقيقية تصيب أحدنا، وإنه الغرق في بحر الدنيا واللهث خلف بريقها يصل بأحدنا إلى درجة أن الدنيا تصبح عنده أولى من الآخرة.
إنه شبّه بعضنا بحال من سرق اللصوص بيته وفيه ماله وذهبه وأغلى ما يملك، فيتألم ويبكي ويجزع على ضياع أمواله مع العلم أن بالإمكان تعويضها بالعزيمة والهمة والمثابرة وحسن التوكل على الله بينما هو نفسه ولعلي أنا أو أنت ممن يكون الشيطان قد سرق وخطف قلوبنا دون أن نشعر أو نحس بفداحة الخسارة، ليس لأنه لص ماهر وإن كان هو كذلك ولكن بسبب غفلتنا وقلة انتباهنا، وهنا تكون الخسارة الكبيرة لأنه إن سرق القلب أو خطف فليس من السهل استرجاعه.
عجيب أمرنا أننا نعيش في زمان أصبح لا يكاد يخلو بيت أو محيطه من كاميرات ترصد كل حركة أو نسمة ريح حول البيت ومن كل جوانبه خشية اللصوص أو العابثين، بل إن التقنيات الحديثة جعلت صاحب البيت وعلى بعد آلاف الأميال يرى بالبث المباشر ماذا يجري في بيته ومحيط بيته، وقد اقتنى تلك التقنيات الحديثة التي تمكنه من ذلك خشية أن يسرق بيته أو يعتدى عليه.
ولكن في المقابل فإننا لا نشغل كاميرات المراقبة الذاتية على جوارحنا وقلوبنا بل إننا نعطل كل الكاميرات وإذا بالشيطان يدخل فيسرق أغلى ما نملك. إن الكاميرات الذاتية لابد أن تعمل دائمًا، فلا يدخل شيطان الإنس ولا شيطان الجن إلى قلوبنا فيفسدها.
غريب ومضحك حال ذاك الذي يدفع الأموال الكثيرة ليرتبط بتقنية تجعله وتمكنه من رؤية بيته وكل ما يجري في ساحاته وفي غرفاته وهو في سفر إلى بلد بعيد حذرًا من العابثين واللصوص، بينما هو لا ينتبه إلى ذلك اللص القريب والقريب جدًا والذي راح يسرق قلبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك”، بل إن مثل ذلك الشخص وأمثاله كمثل ذلك العرّاف الذي كان يتباهى أمام الناس بقدرته على معرفة الغيب والاطلاع على المستقبل من خلال قراءته لحركات النجوم. وذات ليلة وبينما هو يمشي معهم ويشير وهو ينظر إلى السماء وهو يقول هذا كوكب كذا وذاك كوكب كذا ثم يغرق في تحليلاته بل تخبيصاته، وفجأة وهو يمشي على الأرض وينظر بعيدًا إلى السماء وإذا به يسقط في حفرة كانت في الطريق، فقال له أحدهم شامتًا سبحان الله ترى النجوم في السماء وتقرأ المستقبل وما سيكون، ولا ترى حفرة في طريقك قد وقعت فيها. نعم فكيف لأحدنا أن يراقب لص بيته وهو بعيد آلاف الأميال بينما لا يراقب لص قلبه “الشيطان” وهو معه ويلازمه ويجري فيه مجرى الدم في العروق؟!
# وعد المدير ووعد العليّ القدير
إن طموح وآمال أي موظف في شركة أو معلم في مدرسة أو طبيب في مستشفى أو غيرها، فإن طموحه يصل إلى اليوم الذي فيه يترقى وينال موقعًا متقدمًا في السلك الوظيفي. وإذا كان اليوم الذي فيه يسمع هذا الموظف أيًا كان من مديره وعدًا له بالترقية فإنه عند ذلك سيصل الليل بالنهار و يعمل جاهدًا لفعل كل ما يطلب منه، بل وأكثر من أجل أن يحقق ذلك الوعد خشية أن يكون تقصيره أو عدم خلقه ذلك الانطباع الإيجابي سببًا لنقض المدير العهد والوعد له بالترقية.
فإذا كان عرض المدير هو وظيفة ورتبة أعلى، ويكون الثمن هذا العطاء والعمل المتواصل فكيف إذا كان وعد العليّ القدير لكل منا جنة عرضها السماوات والأرض، أفلا يتطلب ذلك منا العمل والعطاء والتنفيذ الدقيق لأوامر الله سبحانه، ألا يتطلب الأمر منا أن نصل الليل بالنهار ونسخّر كل امكاناتنا وطاقاتنا بل ونبيع أنفسنا كلها لله من أجل أن يتحقق لنا ذلك الوعد {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} آية 111 سورة التوبة.
فإذا كان وعد المدير لنا يستوجب هذا العطاء مع احتمالات أن لا ينفذ المدير وعده لأسباب قد تكون خارجة عن إرادته، فإن الحال يجب أن يكون كذلك مع وعد العليّ القدير بالجنة بإذن الله دون أي شك أو احتمال لغير ذلك، لأن هذا وعد الله والله سبحانه أوفى بالوعد {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} آية 6 سورة الروم.
# صوّبوا السهام
قال الدكتور خالد أبو شادي في واحدة من روائعه “إذا خذلتكم قوى الأرض فصوّبوا سهام دعائكم نحو السماء”. إنها النصيحة الصادقة تنفعنا أفرادًا وتنفعنا أمة في هذا الزمان الصعب الذي نعيشه والذي تمر به أمتنا. الزمان الذي فيه ليس فقط خذلتنا قوى الأرض وإنما التي فيها يطعن في الظهر أبناء الجلدة، بل التي فيها ينزل على الأمة بلاء من حكامها أعظم مما ينزل عليها من أعدائها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانه لم يسمع بلاء أشد منه حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة، وحتى تملأ الأرض جورًا وظلمًا، لا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظلم، فيبعث الله عز وجل رجلًا من عترتي فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا يرضى عنه ساكن السماء وساكن الارض”.
فحينما يخذلنا أهل الأرض وحينما تغلق أمامنا أبواب الأرض، فما علينا إلا أن نصوّب سهام الدعاء فعندها يقينًا ستفتح بإذن الله أبواب السماء، وعند ذلك فإنني على يقين أننا سنكون أقرب إلى الفرج وإلى النصر بإذن الله تعالى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا”. وقد قيل دائمًا ما يأتي النصر عند انقطاع الأسباب الأرضية لكي لا تتعلق قلوب العباد بغير الله” وما أعظم ما قاله الشاعر:
سهام الليل صائبة المرامي إذا وترت بأوتار الخشوع
يصوبها إلى المرمى رجال يطيلون السجود مع الركوع
بألسنة تهمهم من دعاء وأجفان تفيض من الدموع
أليس البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان إذا أقبل على معركة فإنه كان يستعد لها أتم استعداد، ويأخذ بكل أسباب النصر الأرضية، ولكنه كان بعدها لا ينسى أسباب السماء فيصوّب سهام الليل يدعو الله جل جلاله، يقول له بتذلل وانكسار: “إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل”.
فبعد أن تكونوا أجهدتم أنفسكم بالعمل والأخذ بالأسباب ليلًا ونهارًا، فصوّبوا سهام الليل وكونوا على يقين وثقة أن الله سبحانه سيستجيب، وإننا إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]