التصعيد الأخطر كان في 3 حزيران/ يونيو، عندما شنت قوات الأمن السودانية حملة دامية ضد معتصمي مقر القيادة العامة في الخرطوم، وفق تقارير صحفية ومعارضة تنفيها سلطات المجلس الانتقالي.
أسفرت الحملة عن مقتل أكثر من مائة من المدنيين “العزل” – بحسب قوى التغيير – وأعداد من الجرحى، بينما تراجعت الآمال في التوصل إلى حل سياسي بين طرفي الصراع على السلطة (المجلس الانتقالي العسكري وقوى الحرية والتغيير) بعد سقوط نظام عمر البشير في 11 أبريل/ نيسان الماضي.
وتتصاعد المخاوف من انزلاق البلاد إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار بعد أحداث 3 حزيران/ يونيو التي لفتت انتباه المجتمع الدولي والاتحاد الإفريقي ودول عربية عدة إلى خطورة الأوضاع في السودان في المرحلة الراهنة.
في 6 حزيران/ يونيو اتخذ مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي قرارا بتعليق عضوية السودان إلى حين تسليم السلطة إلى إدارة انتقالية “مدنية”، إلا أن الدول العربية في المقابل لم تبد توجها لاتخاذ أي إجراءات مماثلة للضغط على المجلس الانتقالي لاستئناف الحوار الهادف إلى تسليم السلطة أو على الأقل اقتسامها مع قوى الحرية والتغيير.
منذ الإطاحة بسلطة عمر البشير شهدت المفاوضات بين المجلس الانتقالي العسكري وقوى الحرية والتغيير محطات متباينة بين تقدم واضح وشبه اتفاق إلى حالات جمود وتراجع.
تتولى قوى عدة سلطة القرار في المجلس الانتقالي العسكري الذي يضم القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وهي قوات شبه عسكرية يقودها نائب رئيس المجلس، الرجل الأقوى فيه، محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” والتي تتشكل من مجموعات من الجنجويد، وهي ميليشيات سابقة من القبائل العربية التي انتهجت سياسة الأرض المحروقة في إقليم دارفور غرب السودان، ومتهمة بارتكاب العديد من التجاوزات، ما دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرتي توقيف بحق الرئيس السابق عمر البشير بتهم ارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية” وبعدها جرائم “إبادة” خلال منتصف العقد الماضي.
اقتربت مفاوضات الجانبين من التوصل إلى “تسوية” لاقتسام السلطة بناء على خطوط عريضة لمرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تمهد لإجراء انتخابات تشريعية، ألا أن خلافات عدة حول تشكيلة مؤسسات الحكم بين المدنيين والعسكريين أدت إلى فشل المفاوضات.
ويتبادل الجانبان الاتهامات بالتسبب في فشل المفاوضات.
ووفقا لتقارير إعلامية، فإن المجلس الانتقالي العسكري لم يكن راضيا عن المبادئ الأساسية لاقتسام السلطة التي “قد” تؤدي في نهاية المطاف إلى تحجيم قياداته العسكرية “المتهمة” بإفشال المفاوضات وتوجيه قوات الدعم السريع لفض الاعتصامات التي بادر رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان إلى إعلان خطته لتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات خلال فترة تسعة أشهر.
عربيا، يربط خبراء بين جولة البرهان في مصر والسعودية والإمارات خلال الأسبوع الأخير من أيار/مايو الماضي والحملة “الدموية” لفض الاعتصامات وسط شكوك قادة المعارضة بتشجيع تلك الدول على تبنى مسار العنف بديلا عن المفاوضات.
كما أن كلا من السعودية والإمارات على صلة مباشرة بكل من عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي ونائبه اللذين عملا في قيادة القوات السودانية في مواقع المسؤولية عن تنسيق المشاركة العسكرية السودانية بقوات نظامية وأخرى من قوات الدعم السريع تحت قيادة قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن الذي تقوده المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
في مقابل ذلك، أعربت السعودية بعد يومين من الحملة “الدموية” عن “قلقها الشديد” إزاء الخسائر في الأرواح ودعوة الفرقاء إلى استئناف الحوار، وهي الدعوة التي تبناها عبد الفتاح البرهان حين دعا المعارضة في 5 حزيران/ يونيو إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.
ويرى خبراء أن المخاوف السعودية والإماراتية والمصرية بشأن “نجاح” تحركات قوى الحرية والتغيير ومشاركتها في حكم البلاد مستقبلا، يمكن أن تؤثر على مجتمعات تلك الدول في موقفها من أنظمة الحكم القائمة.
وفي ثنايا الصراع السوداني، تبرز صورة أوسع لانعكاسات صراعات خارجية على النفوذ والسيطرة في عموم المنطقة.
وتسعى مصر لضمان أن كلا من دولة قطر وتركيا لن يكون لهما ما تعتبره القاهرة أي “نفوذ” في سودان ما بعد عمر البشير، وهو ما يفهم من تصريحات للرئيس المصري باستعداد بلاده لدعم السودان لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة “بعيدا عن أي تدخل أجنبي”، وهو جزء من فهم أوسع لخيار تشترك فيه مصر مع كل من السعودية والإمارات.
في الاتجاه نفسه، تلقت سلطة المجلس الانتقالي العسكري تعهدات سعودية وإماراتية بدعم يصل إلى ثلاثة مليارات دولار لدعم الاقتصاد السوداني، وهو الدعم الذي تنظر إليه قيادات قوى الحرية والتغيير بأنه يهدف إلى ممارسة المزيد من النفوذ السعودي والإماراتي على سلطة وقرار المجلس الانتقالي العسكري.
ويُعتقد على نطاق واسع أن الموقف السعودي “المرن” والدعوة إلى الحوار يأتي على خلفية الاتصال الذي أجراه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل مع نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان للضغط باتجاه أهمية نقل السلطة من المجلس العسكري الانتقالي إلى حكومة بقيادة مدنية، وفقا لإرادة الشعب السوداني عقب حملة “قمع” المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش السوداني في العاصمة الخرطوم.
وأصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج بيانا دانت فيه “الهجمات العنيفة” على المعتصمين داعية رئيس المجلس العسكري في السودان عبد الفتاح البرهان إلى التراجع عن قراره بإلغاء اتفاق ترتيبات نقل السلطة مع قوى الحرية والتغيير، وإجراء انتخابات خلال تسعة أشهر.
وعلى النقيض من الموقف الغربي الذي يدعو المجلس الانتقالي العسكري صراحة إلى تسليم السلطة لحكومة انتقالية “مدنية”، عززت العلاقات العميقة بين قيادة المجلس وكل من السعودية ومصر والإمارات “الثقة بالنفس” لدى هذه القيادة التي تمثل “سلطة الأمر الواقع” في السودان لعدم تقديم أي تنازلات والوقوف بقوة وعنف ضد قوى المعارضة والمدنيين المحتجين، بحسب متابعين للشأن السوداني.
غير أنه لا يمكن للسودان أن يمضي قدما باتجاه الانتقال السلمي للسلطة وقيادة مرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات تشريعية تحترم خيارات الشعب السوداني طالما ظلت دول إقليمية تتدخل في الشأن السوداني الداخلي وتعمل على تعزيز نفوذها ضمان مصالحها التي غالبا ما تكون بالضد من مصالح الشعب السوداني ومستقبله وأمنه واستقراره.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]