لا أعلم كم منا لبى النداء وتابع البرنامج الخاص عن يافا وحيفا والناصرة الذي عرض مساء اليوم ضمن برنامج تحت المجهر. كنت بانتظار البرنامج لمعرفة الدافع وراء اختيار تسمية البرنامج " اغتيال مدينة " ولفت نظري أن مخرج البرنامج والقائمين عليه والمشاركين فيه كلهم من أبناء فلسطين وجزء منهم يعيش في المدن المذكورة أعلاه. أعرف غالبية الأشخاص معرفة شخصية أو من خلال ما قرأت لهم ولا أشك بنزاهة أحد منهم بل أكن لهم كل الاحترام والتقدير وأشهد لهم على دورهم في مجتمعاتهم والمؤسسات التي عملوا من خلالها من أجل تحسين وضع المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل .
هناك إجماع على أن ما حدث في فلسطين مع بداية نكبتها وحتى يومنا هذا يعتبر جزء من الحراك العام والحياة والفكر والذاكرة الجماعية والفردية ليست فقط لأبناء فلسطين فحسب وإنما للعالم العربي والإسلامي ككل. نعيد ونكرر الطرح الذي يقول أن النكبة ليست حدث تاريخي بدأ وانتهى قبل ستة عقود بل قبل ذلك وفي هذا الشهر بالتحديد تم اتخاذ قرارات هامة تخص فلسطين في أوله كان وعد بلفور وفي أخره كان قرار التقسيم. يافا كانت جزء من فلسطين ومنفذها إلى البحر ولكن هذا القرار المجحف والظالم الذي جعل من لا يملك يعطي لمن لا يستحق كان جزء المؤامرة الغربية وربما العربية على فلسطين أرض الرباط ومسرى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عيسى عليه السلام. يافا مدينة عريقة يعود تاريخها إلى الآف السنين شهدت فيها النكبات والحروب والنوائب والمصائب ما لم تشهده مدينة أخرى في العالم ولكن شريان الحياة فيها كان وما زال نابضا حتى يومنا هذا. نعم هي جرح مفتوح , منكوبة واقع لا جدال فيه شرّد أهلها انتهكت حرماتها , دنست وتدنس مقدساتها . يعيث فيها الغريب فسادا وتعيش احتلال لأكثر من 500 عام كلنا يقر ويعترف بالحقيقة ولكن هل يعني ذلك أن المدينة اغتيلت ؟ هيروشيما ونجزاكي ضربت بالقنبلة الذرية فهل ماتت هذه المدن أو أزيلت عن الخارطة ؟ موسكو تعرضت للحرق خلال احتلال نابليون لها وفي الحرب العالمية الثانية ولكنها لم تمت وبيروت دمرت وغيرها من المدن في العالم ولكن طالما هناك أم تلد وطفل يكبر ويترعرع على حب بلده يبقى شريان الحياة ينبض فيها. يافا وحيفا والناصرة كانت وما زالت مدن فلسطينية تحمل تاريخ عريق ومجد وحضارة رغم انف الحاقدين والمتآمرين عليها. يعرف أخي الكبير أبو يوسف فخري جدي أنه كان الأكاديمي الوحيد في يافا منذ عودته من بيروت بعد النكبة وحتى العام 1974 عندما تخرّجت أول مجموعة من الأكاديميين من يافا ومنذ ذلك الحين العدد بازدياد يفوق التكهنات وبدون مبالغة حيث تنعم يافا اليوم بعدد كبير من طلاب الجامعات والمعاهد العليا بعد أن حرم أهلنا الذين عاشوا في جيتو العجمي. وكذلك الأمر في حيفا والناصرة وحتى الناصرة العليا التي بنيت لليهود وضمن برنامج تهويد الجليل نرى أن الحياة أقوى من كل المخططات ونشهد أن عدد أعضاء المجلس البلدي العرب في بلدية الناصرة العليا بازدياد لتصبح هذه المدينة مستقبلا جزء من الناصرة عاصمة الجليل ومدينة البشارة. وحيفا من واد النسناس إلى واد الجمال من جبال الكرمل إلى الميناء وشارع عباس والمتنبي وعمود فيصل ينبض الشارع بالعروبة والتراث وإن كانت حيفا قد لقبت أم كلثوم بكوكب الشرق فإنها قادرة على أن تحافظ على تراثها وتاريخها طالما كان هناك مؤسسات وأفراد أمثال الأخ حسين اغبارية والدكتور جوني منصور وغيرهم كثر لن تموت حيفا لأن هناك من يحميها ويحمي ترابها.
ربما تكون هذه محاولة بائسة ليس لاغتيال هذه المدن ولكن لاغتيال الحلم . حلم العودة وقطع شريان الحياة الممتد من مخيمات اللاجئين في صور وصيدا وصبرا وشتيلا. أنا لا اتهم المشاركين في البرنامج ولا اعتقد أن ردهم على أسئلة معد البرنامج كان الهدف من ورائها الوصول إلى الغاية المنشودة من البرنامج وليس من المفروض أن ما قيل سيصل بالنتيجة المطروحة بل العكس هو الصحيح. أعيش في يافا وأحبها حتى النخاع وأبنائي كذلك وأحفاد أبو صبحي أيضا وكل طفل يولد في مخيمات اللجوء من صحراء ليبيا وحتى نيكارجوا . كل واحد منا يحلم في يافا وحيفا والناصرة منهم من يعايشها ومنهم من يحمل وطنه إلى كل مكان فاحتلال الأرض ممكن ولكن هيهات أن تحتل الذاكرة. وللجزيرة نقول أمست جزيرتكم محاصرة بنهج يفقدها القدرة على كشف الرأي الآخر تحت المجهر المعطّل.
عبد القادر سطل
يافا في تشرين الثاني
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]