سنوات طويلة عاشها السلطان صلاح الدين الأيوبي وهو يرى الوجود الصليبي الجاثم على صدر فلسطين والقدس، تارة حين شب على هذا الواقع، وانخرط في سلك الجندية والسياسة في بلاد الشام مقربا من السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وتارة أخرى حين انطلق مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر على رأس جيش قوي في ثلاث محاولات متتالية لمنع تبعيتها للصليبيين، في ظل الصراع الحامي بين شاور وضرغام على الوزارة والسلطة الفاطمية التي كانت تتداعى، واستعانة كلٍّ منهما بالقوى الخارجية.
كان الصليبيون لا يُشكّلون مجرد مصدر تهديد وإرهاب للمسلمين من حولهم بالقتل والسلب والأسر فقط، بل فوق ذلك يُمثّلون مصدر تهديد دائم على المقدسات الإسلامية، وعلى رأسها احتلالهم للقدس الشريف، وتحويل المسجد الأقصى إلى مقر لفرقة فرسان الهيكل، ثم تحويله إلى إسطبل لخيولهم فيما بعد، بل ومحاولاتهم الإغارة على الحرمين الشريفين بقيادة أرناط، تلك المحاولة التي أفشلها السلطان صلاح الدين، وأقسم متوعدا على قتل هذا القائد الصليبي بيديه، وهو ما فعله بعد انتصار حطين.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، عملت إستراتيجية السلطان صلاح الدين على المحورين السياسي والعسكري معا، بتوحيد مصر والشام أولا والقضاء على النزاع الإسلامي الإسلامي، ثم بالهجوم على الإمارات الصليبية بهدف تحرير المسجد الأقصى في نهاية المطاف، وهو ما تم له في معركة حطين الخالدة بين الناصرة وطبرية سنة 583هـ/1187م، وفتحت الطريق أمامه لاستعادة القدس والمسجد الأقصى المبارك.
غير أن صلاح الدين قد هاله الحالة العمرانية للقدس الشريف حين دخلها ظافرا، وعزم على إعادة العمران لهذه المدينة وتحصينها خوفا من إعادة الصليبيين الكرّة على المدينة العتيقة من جديد، فما الذي فعله السلطان صلاح الدين من أجل حماية المدينة المقدسة؟ وكيف سار الأيوبيون من خلفه على نهجه لضمان تقوية موقف المدينة أمام أي عدوان محتمل؟ وهل نجح السلطان صلاح الدين الأيوبي في مسعاه؟
كان السبب الرئيسي الذي دفع بالسلطان صلاح الدين لإعادة هيكلة وتغيير طبوغرافية القدس من جديد يتمثّل في انتشار الصبغة الصليبية التي علت المدينة، وغيّرت من ملامحها الإسلامية طوال فترة الاحتلال التي استمرت تسعين سنة، وقد لاحظ عدد من الباحثين أن الأمور التي قام بها السلطان صلاح الدين انتهت بثلاثة أساليب استخدمها لتحقيق هدفه: الأول، تطهير المدينة من بعض الإضافات التي استحدثها الصليبيون في الأماكن المقدسة، والثاني، إعادة تحصين المدينة من خلال بناء الأبراج والأسوار، والثالث، تحويل بعض المباني الصليبية المسيحية لأغراض إسلامية.
فقد أسرع السلطان إلى منطقة الحرم القدسي، وعمل على إزالة كل المنشآت العمرانية التي أقامتها فرقة فرسان المعبد الصليبية "الداوية"، مثل الكنيسة وقاعة الطعام وأماكن السكن في المسجد الأقصى، والصور والرسوم داخل قبة الصخرة، ونُظفت المنطقة كلها بماء الورد الذي أُحضر لتطهير المسجد الأقصى من بلاد الشام خصيصا. وفي ذلك يقول القاضي بهاء الدين بن شداد كاتب سيرة صلاح الدين ومعاصره: "كان الإفرنجُ قد عملوا غربي المسجد الأقصى نهرا ومستراحا، فأمر السلطانُ بإزالة ذلك، وإعادة الجامع إلى ما كان عليه، وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبرا بحلب تعب عليه مدة وقال هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان من أحضر المنبر من حلب وجعله في المسجد الأقصى".
كذلك أمر السلطان بتحويل الكنائس الصليبية المستجدة في القدس إلى مدارس ودور علم ورباطات ومستشفيات، فأُعيدت كنيسة القديسة آنا في الجهة الشمالية من الحرم قرب باب الأسباط إلى سابق عهدها، مدرسة سُميت بالمدرسة الصلاحية أو الناصرية في تدريس المذهب الشافعي، أما قصر بطريرك الفرنج شمال غرب كنيسة القيامة فقد حُوّل رباطا للصوفية، وفي غرب القدس كان فرسان الإسبتارية قد أنشأوا مجمعا لهم يتوسطه كنيسة، قرر السلطان صلاح الدين تحويله إلى مستشفى "مارستان" للمرضى زوّده بالعقاقير والأدوية المختلفة.
وبعد مجيء الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملك فرنسا فليب وإنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وإعادة الاستيطان والتمركز في مدينة عكا الساحلية، قرر السلطان صلاح الدين بناء الحصون الحربية والأبراج والأسوار لحماية القدس، خشية من تكرار الاحتلال الصليبي للمدينة المقدسة، وقد وزّع هذه المهام على نفسه وأولاده وأخيه العادل الأيوبي وأولاده، فضلا عن أمرائه الآخرين، وينقل لنا الرحالة والطبيب عبد اللطيف البغدادي أحوال مجلس صلاح الدين بالقدس حينذاك، الذي كان بين مذاكرة العلماء، ومتابعة شؤون الدولة، والإشراف على بناء أسوار القدس وأبراجها، بقوله:
"أتيتُ الشام والملك صلاح الدّين بالقدس، فأتيته فرأيته ملكا عظيما، يملأ العيون روعَة، والقلوب محبة، قريبا بعيدا، سَهلا محببا، وأصحابه يتشبهون بِهِ. وأول ليلةٍ حَضَرتُهُ وجدتُ مجلسًا حفِلًا بأهل العلم يتذاكرون فِي أصناف العلوم، وهو يُحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار، وحفر الخنادق، ويتفقّه في ذلكَ، ويأتي بكلّ معنى بديع. وكان مهتمًّا في بناء سور القدس، وحفر خندقه".
بل يؤكد البغدادي أن صلاح الدين كان "يتولى ذلك بنفسه، وينقل الحجارة على عاتقه، ويتأسّى به جميع الناس الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، ويركب لذلك قبل طلوع الشّمس إِلَى وقت الظُّهر، ويأتي داره فيمدّ السِّماط (الطعام)، ثمّ يستريح، ويركب العصر، ويرجع في ضوء المشاعل، ويُصرّف أكثر الليل في تدبير ما يعمل نهارا. وقال لهُ بعض الصُّنّاع: هذهِ الحجارة التي تُقطع من أسفل الخندق، ويُبنى بها السور رخْوة. قال: نعم، هذه تكون الحجارة التي تلي القرار والنداوة، فإذا ضربتها الشمس صَلُبَت".
استطاع السلطان صلاح الدين بمساعدة أبنائه وأمرائه والمتطوعين من المسلمين، فضلا عن المساعدة التي قدمها الأمير عز الدين مسعود الزنكي أمير الموصل بالرجال والمال، بالإضافة إلى عمل الأسرى الصليبيين في هذه المهمة وكانوا ألفي أسير إلى إتمام المهمة، وتحصين الأسوار، وبناء الأبراج حول القدس، فصارت المدينة في حالة آمنة من أي غزو صليبي محتمل قد يأتي من بقايا الإمارات الصليبية في الساحل الشامي.
كان السور الجديد أقوى وأمتن، وتم إضافة العديد من المباني التي كانت خارج السور القديم إلى الجديد، فقد أُدخلت كنيسة صهيون والأبنية حولها في الجزء الجنوبي الغربي من القدس، وبمرور الوقت، كان صلاح الدين وأبناؤه وإخوته يعملون على إضافة المنشآت العمرانية التي تسهّل على أهل القدس معيشتهم واحتياجاتهم الأساسية، فعمل الملك العادل أخو صلاح الدين على بناء مطهرة في الجانب الغربي من الحرم القدسي لتمد أهالي القدس بالمياه، وأُنشئ ما بين مسجد الصخرة والمسجد الأقصى حوض على شكل كأس مبطن بالرخام مملوء بالماء وفي وسطه نافورة، لضمان وجود الماء الدائم للقادمين إلى المسجد الأقصى.
ظلّت العمارة الأيوبية تتسع وتكثر بعد وفاة السلطان صلاح الدين سنة 589هـ/1193م، في عهد أبنائه وأبناء أخيه السلطان العادل، فأنشأ الأفضل نور الدين بن صلاح الدين المدرسة الأفضلية في حارة المغاربة لتدريس المذهب المالكي، وأنشأ الملك المعظّم عيسى بن العادل الأيوبي المدرسة المعظّمية شمالي الطريق المؤدية إلى باب الأسباط، والمدرسة النحوية، وإقامة سبيل الشعلان أسفل الدرج الشمالي من الحد الغربي لصحن الصخرة المشرفة.
على أن هذه العمارة وذلك التشييد الفريد الذي تنوّع ما بين منشآت دينية وعلمية وحربية وخدمية واجه مأساة في نهاية عصر المعظّم عيسى حين أمر بخراب الكثير من هذه العمارة خوفا من استيلاء الصليبيين عليها سنة 616هـ، بل كان الأسوأ من ذلك سنة 626هـ/1228م في سلطنة الكامل محمـد بن العادل الأيوبي أخو المعظّم عيسى، الذي سلم القدس بالفعل لإمبراطور ألمانيا فردريك الثاني على طبق من ذهب لموازنات سياسية، وكان الأيوبيون قد خرّبوا كثيرا من عمارتها قبل هذه اللحظة البائسة.
على أن دخول القدس تحت سلطة المماليك بعد انقضاء دولة الأيوبيين وسقوطها قد أعاد لها بعض رونقها القديم، فاهتم المماليك في دولتهم الأولى بتجديد المنشآت العلمية والخدمية، وإن لم يهتموا كثيرا بالمنشآت الحربية لزوال الخطر الصليبي بالكلية على أيديهم من بلاد الشام، لتصل القدس إلى ذروة التجديد العمراني في عصر العثمانيين على يد السلطان سليمان القانوني.
وهكذا حرص السلطان صلاح الدين الأيوبي، لا على تحرير بيت المقدس من الاحتلال والإرهاب الصليبي الغاشم الذي جثم على صدر المدينة تسعين عاما كاملة، وإنما على سحق وتدمير التخطيط والتغيير العمراني الذي شكّلوا به المدينة المقدسة لتصير مدينة كمدن الغرب الأوروبي حينذاك، وكان جهده عظيما في هذا المضمار، شارك فيه بنفسه وعرقه وبدنه.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]