الشيخ سليمان سطل رئيس الحركة الإسلامية وإمام مسجد النزهة- يافا
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
ما من عاقل إلا وله في حياته هدف يسعى لتحقيقه ورسالة يودُّ أداءها، أي: أن له همًا في هذه الحياة؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام). قال ابن الأثير رحمه الله في معنى همام: "وإنما كان أصدقها لأنه ما من أحدٍ إلا وهو يهم بأمر، خيرًا كان أو شرًا". إذًا فكل أحد يحمل بين جوانحه همًا وهدفا يحركه في هذه الحياة ويوجه طاقاته لتحقيقه.
اجتمع ذات يوم بفناء الكعبة أربعة من أبناء سادات قريش هم: عبد الله بن عمر، وعروةُ بن الزبير، وأخوه مصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال لهم مصعب: تمنَّوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال: ولاية العراق وتزوُّجُ فلانة وفلانة وسماهما، وتمنى عروة الفقه في الدين، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى ابن عمر الجنة. فسعى كلٌ منهم لإدراك غايته، واستجمع قواه في تحقيق أمنيته، فنال مصعب ولاية العراق وتزوج بمن سمَّى، ونال عروة الفقه فكان من الأئمة العظام ومن فقهاء المدينة السبعة، ونال عبد الملك الخلافة والملك، واجتهد ابن عمر في طلب الجنة ونرجو أن يكون من أهلها.
وفي القصة شاهدان:
الأول: كيف ربَّى النبي أصحابه، وماذا كان همهم في الحياة، وكيف كانوا سادة الدنيا بذلك. فابن عمر الذي تربى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كان أسمى الأربعة همة وأنبلهم طلبة، فكان هدفه أنبل، وكانت أمنيته أسمى.
والشاهد الثاني: تفاوتُ همم الرجال مع أن مطالب الأربعة كلّها في حدود المباح، لكن شتَّان بين من جعل همه بلوغ الجنة أو الفقه في الدين وهو طريق إلى الجنة، وبين من جعل همه التزوج بامرأة أو نيل منصب زائل، إن تركه الناس فيه فلم يخلعوه لم يتركه الموت حتى ينزله من كرسيه ويقذف به تحت التراب.
وفي القصة شاهد آخر، وهو أن ما يحمله الإنسان بداخله من همٍ ورسالة يُحرّك طاقاتِه نحو تحقيقه، فإذا به يتحقق، لا لأنه تمناه، ولكن لأنه جدَّ في تحقيقه وبذل أسباب الوصول إليه فتحقّق بإذن الله.
فمن الناس من همه جمع الدراهم وتكثيرها، وربما بخل بها على نفسه أو أهله لأن همه في رؤيتها كثيرة وإن لم ينتفع بها، وهو بمثابة العبد الذي يحرس المال لسيده ولا حظ له فيه، ومنهم من همه نيل المناصبِ والترفع بها، ، ومن الناس من همه أن يكون مغنيًا يتمايل طربا فيتمايل معه السفهاء، أو كاتبا يشيع الفاحشة وينشر الرذيلة ويروّج للباطل لينال به عرضا زائلا وصيتا حائلا، ومنهم من همه في الحياة امرأة يرى أنه إن ظفر بها فقد فاز فوزا عظيما، وإلا فقد فاتته الحياة، وهكذا.
ولا تزال الهمم تصغر وتصغر حتى يصبح هم أحدهم في أمر تافه حقير يقضي ساعات طوال في الانشغال به، مع أنه يعود عليه بالضرر عاجلا أو آجلا، وكلٌ يسير إلى غايته، ويجهد في تحقيق رسالته، ومن هنا ينشأ التفاوت بين النبلاء والدهماء، بين العقلاء والسفهاء؛ لأن منازل الرجال وكذلك النساء تتفاوت بتفاوت ما يحملونه من الهموم والغايات، فالهمم العالية تسمو بصاحبها إلى ذرى المعالي، والهمم الدنيئة تسفُل بصاحبها إلى الحضيض، وكلٌ يسعى لإدراك غايته وتحقيق أمنيته جليلة كانت أم حقيرة، خيرا كانت أم شرا.
واعلم أيها الحبيب اللبيب أن الهمّ الذي تحمله بين جنبيك هو الذي يحدِّدُ قيمتك في سوق الرجال، فإن كان همُّك في الحياة رضوان الله عز وجل فتحيا بدينك ولدينك ذابًا عن حياضه حاميًا لحماه دائبًا في نشره مجاهدًا لعزه ونصره مجتهدًا في نصح الخلق وتعبيدهم لخالقهم ساعيا في الخيرات آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر فاعلم أن همَّك عظيم ومطلبَك كريم، فأخلص العمل لله جل وعلا، واقتفِ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسترى الثمار يانعة بإذن الله، فإن كنت ذا علم فعلِّمه من لا يعلم، وإن كنت ذا مال فلا تبخل بالبذل لإعزاز دينك وغوث إخوانك وإن كنت ذا منصب وجاه فاستعمله في مرضاة ربك وخدمة دينك وأمتك.
أما من كان همُّه في الحياة ليس إلا منصبا رفيعا وقصرا منيفا ومالا وفيرا ولا همَّ له في دينه فلا يغضب لله ولا ينتصر لأولياء الله من العلماء والدعاة ولا يأبه بانتهاك حدود الله فهذا ميت يمشي بين الأحياء، فأحسن الله عزاءه في نفسه، ولا كثر في المسلمين من جنسه، فبطن الأرض خير له من ظهرها.
ومـا للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا مـا عُد من سقط المتاعِ
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]