لي صاحب هو أقرب الناس إلي ، عرفته منذ أن عَرفَتْنا الدنيا ، وكنا قلما نفترق ، أبثه همومي على قلتها ويبثني همومه ــ وما أكثرها ــ استدعاني قبل يومين أو ثلاثة إلى بيته ، فلما جئته وقدَّم إلى ضيافته ، قال لي : أريدك أن تقرأ هذه الرسائل الجريئة من "مطلقة" كتبتها على صفحات موقع يافا 48. قلت له : ألهذا استدعيتني؟ قال لي : اقرأ أولا ، فإن لحديثي معك بقية. فقرأتها وكلما قطعت سطرا ، أقول في نفسي : " يا لجرأة هذه المطلقة! كيف استطاعت أن تجهر بمثل هذه الأحاسيس والمشاعر؟ أما خافت من أن يُظنَّ بها السوء وهي "المرأة" ؟ أوَما علمت أن المجتمع لا يرحم؟ وأن الناس ستلوكها بألسنتها الحِداد؟" لكنني كنت في الوقت ذاته ألتمس لها المعاذير وأقول : " أليست بشرا تملك بين جانحيها قلبا يحتاج إلى من يواسيه بالحنان ، ويمده بفيض المشاعر؟! أم لأنها "مطلقة" أصبحت "حِجرا محجورا " ، لا ينبغي أن تتسلل إلى قلبها "الأنثوي" أحاسيس الشوق إلى كلمات حانية أو حضن دافئ يلُمُّ شتاتها ، ويمسح آهاتها ويحصنها من نزغات الشيطان ، ووساوس النفس " ...
قال لي صاحبي وهو يقدم لي كوبا من الشاي : هيهِ ، ماذا تقول فيما قرأت ؟ قلت له : "واللهِ ، إن امرأة كتبت هذه الكلمات بهذه القوة والوضوح لجريئة ، وإنني أخاف عليها من أن تتعرض لقالة السوء ورديء الظن ، فالناس لا ترحم ، وأظنها ستصبح حديث المجالس" ثم استدركت وقلت :" بل أظنها لم تكتب ما كتبته إلا لتكون حديث المجالس ، ومدار كلام الناس ، فكلهم - إلا من رحم ربي - قد انطوى على نفسه ، وانشغل بهمومها ، ونسي أنه جزء من مجتمع له هموم يشترك فيها الناس ؛ وجلاؤها لا يكون إلا بأن يقتسم الناس حِمْلها ويشتركوا في حلها ، وخاصة تلك المشاكل والهموم التي إن تركناها ولم نعالجها سيؤول بنا الأمر إلى أن نكون لقمة سائغة في يد من يتربص بنا عقودا من الزمن يحاول اجتثاثنا من أرضنا وأخلاقنا وقيمنا وتراثنا وديننا ؛ لقد حاول من قبل أن يجتث وجودنا فلم يفلح ، فعمد إلى "حيلة شيطانية" ، ولو كنا نقرأ القرآن أو الحديث لأخذنا حِذرنا وأسلحتنا : ألم يقل الله تعالى :" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ..... إلى قوله .. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" أوما مر عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ - أَوْ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ - وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ أَنْتَ "
وما تبع شياطين الجن والإنس هذا السبيل إلا لأنهم يعلمون أن في التفريق بين الأهلين ضياع للأولاد وانحطاط للأخلاق وإهدار للأموال وامتهان للنساء وقلق بال ونكد عيش وإرهاق للأعصاب و..." قاطعني صاحبي وقال لي :" على رسلك ، يا هذا ... أنت محق فيما تقوله فالأمر جد خطير ، وهو يحتاج إلى أن يقف الناس جميعا أمامه ليجدوا له حلولا ، فالتعاطف أمر جيد ومحمود وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن المجتمع ما زال فيه بقية من روح ورمق من حياة واهتمام للموضوع ... لكنني استدعيتك لشيء آخر ... فانا كما تعلم لا أجيد صوغ العبارات ولا تنميق الكلمات ولا استجاشة المشاعر ... لكنكَ قد أوتيتَ من ذلك طرفا ... وأنا على رجولتي لا أملك الشجاعة والجرأة الكافيتين لكي اكتب ما سأقوله ، لأنني أخشى أن تخونني العبارات أو أن تهرب مني الكلمات فأفسدَ من حيث أريد الإصلاح ، وأنت تعلم أنني قد ابتليت بمصيبة الطلاق منذ مدة ، فأحببت أن أخرج ما احتبسته في جوفي منذ أن وقع ما وقع ، علّ كلماتي هذه تستنقذ أحدا ممن يفكر فيه ".
ثم أردف صاحبي يقص عليّ قصته قائلا : " أحببتها كأشد ما يحب رجل امرأته ، وما أزال ..." يتبع
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]