تقع مدينة اللد في الجنوب الشرقي من يافا، وعلى مسيرة 13 ميلاً، كما تقع في الشمال الشرقي من الرملة وعلى بعد ثلاثة أميال عنها. وتقع اللد على ارتفاع خمسين متراً فوق سطح البحر في أحد سهول فلسطين الداخلية.
مدينة اللد محفورة في الذاكرة الشعبية المحلية بصفتها “مدينة الجوامع”، وبعضها كان مشهوراً في العلم العربي. على سبيل المثال: الجامع الكبير، العمري، الذي ما زال موجوداً، بناه في الحقبة المملوكية السلطان ركن الدين بيبرس، الذي استرد المدينة من الصليبيين. ومن الجوامع المشهورة أيضاً جامع دهمش، الذي كان يتسع لـ 800 مصل ويمتلك ستة دكاكين مجاورة له.
حملت اللد تاريخيا أسماء متعددة، فقد سميت “رتن” في عصر تحتمس الثالث الفرعوني، وفي عهد الرومان دعيت باسم “ديوسبوليس”. وبلغت المدينة شهرة كبيرة في تلك الحقبة من الزمن، حيث ذكرها المؤرخ الروماني يوسيفوس فلافيوس ضمن كتابه “تاريخ اليهود” في القرن الأول للميلاد، وقال إنها “قرية لا يقل حجمها عن حجم مدينة”.
ويذكر المؤرخون أن اسم اللد يعود إلى “الليديين” أو “اللوديين”، وهم أمة كانت في العصور القديمة تشمل جزءاً كبيراً من سواحل آسيا الصغرى الغربية الواقعة على بحر ايجه، وكانوا على جانب عظيم من الحضارة والتقدم. ويعتقد بعضهم أن لهذه الأمة علاقة بالفلسطينيين الذين هاجروا من بحر ايجه، ونزلوا بلدانا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فخلدوا “الليديين” بتسمية بلدة “اللد” التي أقاموها في موطنهم الجديد.
وجاء في فتوح البلدان أن اللد فتحها عمرو بن العاص في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد ان تم له فتح غزة وسبسيطة ونابلس. وقد اتخذت عاصمة لجند فلسطين إلى أن بنيت الرملة. وفي العهد المملوكي كانت اللد مركزاً من مراكز البريد بين غزة ودمشق تقع بين منزلتي “قطرة” و “العوجاء-رأس العين”. كما كانت محطة من محطات الحمام الزاجل بين غزة ودمشق.
منذ مئات السنين كانت اللد مدينة مواصلات مهمة جدًا بفضل موقعها في السهل الداخلي في وسط البلاد، وكان معظم الطرق الرئيسية بين شمال البلاد وجنوبها وبين شرقها وغربها يلتقي بها. في عهد الانتداب قررت الحكومة بناء مطار لهبوط واقلاع الطائرات في فلسطين واختارت اللد مكانا للمطار. بدأ العمل على انشاء المطار سنه 1934 وحمل اسم المدينة فسميَ بمطار اللد حيث يقع شمالي المدينة على بعد نحو 4 كلم. استمر العمل فيه ثلاث أعوام وأصبح أكبر مطار في فلسطين تستعمله الطائرات المدنيّة والعسكرية وهكذا أصبحت اللد أهم مركز للمواصلات الداخلية والخارجية في البلاد.
ويُذكر أن بيوت مدينة اللد، شوارعها، وأزقتها كانت تضاء بمصابيح النفط المتنوعة وذلك لرفض سكانها وبلديتها التعامل مع شركة الكهرباء اليهوديه (روتنبرغ)، وقد طلبت البلدية من سلطة الانتداب السماح لها بإنشاء محطة كهرباء محلية مستقلة لكنها رفضت ذلك.
ما قبل النكبة
حسب إحصاء عام (1931) الذي جرى في فلسطين، بلغ عدد سكان اللد (11250) نسمة يسكنون (2475) بيتاً، بينهم (28) يهودياً فقط، وقدر عدد سكان مدينة اللد في عام (1945، 1946م بـ 16760 و18250) على التوالي.
والجدير بالذكر أن مدينة اللد كانت بين سنتي (1936 و1947) خالية من اليهود ونتج عن الاجتياح الصهيوني لمدينة اللد 11/7/1948 طرد معظم السكان العرب من مدينتهم واجبارهم على الرحيل عنها ولم يبق من السكان العرب الذين بلغ عددهم آنذاك نحو 19000 نسمة سوى (1052) عربياً. ويذكر في هذا الصدد أيضاً أن القوات الصهيونية قتلت أثناء دخولها مدينة اللد (426) عربياً منهم (176) قتلوا في مذبحة نصبت لهم في مساجد المدينة.
وكان يتواجد في اللد عائلات ملاكه، منها: دهمش وحسونة والكرزوني. والملفت للانتباه أن هذه العائلات الكثيرة والملاكه لم يبق منها في مدينة اللد إلا أفراد قلائل يعدون على الأصابع ومثال على ذلك عائلة الكرزوني وقاسم واللولو.
عملية “داني”
ويذكر المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه في كتابه (التطهير العرقي) أن احتلال اللد كان ضمن عملية “داني” الاسم الرمزي الموحي بالبراءة للهجوم على مدينتي اللد والرملة، الواقعتين في منتصف الطريق تقريباً بين يافا والقدس. وفي 10 تموز/يوليو 1948، عين دافيد بن-غريون يغآل ألون قائداً للهجوم، ويتسحاق رابين نائباً له. وأمر ألون بقصف اللد أولاً من الجو، وكانت هذه أول مدينة تهاجم على هذا النحو. وتبع القصف هجوم مباشر على وسط المدينة، تسبب بمغادرة من كان تبقى من متطوعي جيش الإنقاذ فيها، وكان عدد منهم قد هرب من مواقعه في وقت سابق عندما علم بأن وحدات الفيلق العربي، المرابطة بالقرب من المدينة، تلقت أوامر من قائدها البريطاني غلوب باشا بالانسحاب. وبما أن اللد والرملة كانتا بوضوح داخل الدولة العربية المرتقبة، فإن سكانهما والمتطوعين للدفاع عنهما افترضوا أن الفيلق العربي سيقاوم احتلالهما بالقوة، كما فعل في القدس الشرقية ومنطقة اللطرون، الواقعة إلى الغرب من المدينة، لكنهم كانوا مخطئين. وفي وقت لاحق خسر غلوب باشا، بسبب قراره بالانسحاب، من منصبه واضطر إلى العودة إلى بريطانيا.
وفي إثر تخلي المتطوعين وجنود الفيلق العربي عن سكان اللد، يشير بابيه، احتمى رجالها، متسلحين ببعض البنادق العتيقة، بجامع دهمش في وسط المدينة. وبعد ساعات قليلة من القتال استسلموا، لكن القوات الإسرائيلية أبادتهم داخل الجامع. وتذكر المصادر الفلسطينية أن 426 رجلاً وامرأة وطفلاً قتلوا في الجامع وفي الشوارع المجاورة، حيث استمرت القوات اليهودية في القتل والنهب (وجدت 176 جثة في الجامع، بحسب بابيه). في اليوم التالي، الواقع فيه 14 تموز/يوليو، أخرج الجنود اليهود السكان من بيوتهم، بيتاً بيتاً، وأمروا 50,000 منهم بالتوجه مشياً إلى الضفة الغربية وكان أكثر من نصفهم لاجئاً من قرى مجاورة.
أما المؤرخ الفلسطيني د. إبراهيم أبو جابر فيذكر في كتابه (جرح النكبة-الجزء الأول) أن مطار اللد سقط في معركة غير متكافئة مع اليهود بعد أن تغلبوا على حاميته. واستشهد عدد من المناضلين وغدت المدينة بعد سقوط المطار محاصرة من جهاتها الأربع دون أن تهب أي قوة عربية لنصرته. وفي الأحد بتاريخ 11/7/1948 حاول اليهود دخول المدينة من جهة قرية جمزو، ولكن المناضلين صدوا هذا الهجوم إلا أن اليهود عادوا فاقتحموا المدينة بدباتهم ومدرعاتهم من جهة قرية جمزو ومن جهة مستعمرة “بين شيمن” عصر يوم الاحد. وقد أعمل اليهود في المدينة قتلاً وانتقاماً حيث قتلوا في مسجد دهمش وحده 80 شخصاً، كما فتكوا بعائلات كاملة.
ويضيف أبو جابر: كانت المقاومة لا تزال مستمرة يوم الاثنين وهو اليوم الثاني لسقوط المدينة، حيث انسحب المناضلون الذين كانوا معتصمين في مركز البوليس إلى الجبال، وتم لليهود امتلاك المدينة بكاملها، وقد سقط في كارثة اللد مئات الشهداء بين مناضل وطفل وشيخ. وصباح يوم 13 تموز/يوليو نفذ الصهاينة قرارهم بإجلاء أهل اللد ومن فيها من السكان، الذين كانوا قد لجأوا إليها من المدن والقرى المجاورة. ولم يكتف اليهود بذلك، بل رابط جنودهم على مشارف المدينة، يسلبون النازحين ويجردونهم من كل ما يملكونه من أموال وحُلي، لا يفرقون بين شيخ هرم وطفل وامرأة، وكان يوماً من أيام رمضان ومن أشد أيام الصيف الحارة، فهام الناس مذهولين على وجهوهم ثلاثة أيام كاملة بلياليها، وتصاعد الغبار من كل مكن وعقدت الألسنة، وجفت العلاقيم من شدة العطش وامتلأت طرق الخروج بالضحايا من شيوخ ونساء وأطفال.
مذبحة مسجد دهمش
قال بن غريون: العرب هي العرب، وعلى العرب أن يتحملوا نتائج هزيمتهم في 11 تموز 1948. فقد شنّت وحدة الكوماندوس هجوماً على مدينة اللد يقودها ديان، وقصفت بعنف المدينة وعومل أهلها بإرهاب ووحشية لم يسبق لها مثيل، ولقد قتلوا كل من واجههم، طفلا أو شيخاً أو شاباً. ووصفت صحيفة الهيرالد تربيون ما حدث عند وصول قوات الهاغاناه وشتيرن والأرغون التي كان يقودها ديان: جثث النساء والرجال والأطفال مبعثرة في كل مكان عقب هجوم صاعق من البلماح، إن جنديا جال شوارع مدينة اللد واعداً عبر مكبرات الصوت “أن من يدخل أحد المساجد سيكون في مأمن”.
تدفق المئات إلى داخل مسجد دهمش معتقدين أنه لن يصيبهم أذى. فلما تجمع الناس في المسجد فتحوا عليهم النار، 80 عربياً يقيت جثثهم مرمية في المسجد لمدة عشرة أيام حتى تعفنت، وفي 11 تموز 1948 شنّ هجوم على مدينة الرملة واعتقل كل من تراوح عمره بين (16-45عاماً)، بحجة المقاومة وجرد كافة السكان ممن تقرر ترحيلهم من ممتلكاتهم وارغامهم على ترك امتعتهم وحوائجهم المنزلية. وتقول احدى المهجرات لقد سرنا ساعات على الأقدام لم يكن في حوزتنا طعام أو ماء، الكثيرون لاقوا حتفهم على الطريق، رأينا أطفالاً متروكين يتجولون باكين، ووصل الامر مع البعض أن تبولوا وشربوا بولهم. ولقد مضغ البعض العشب على أمل أن يحصل على بعض الرطوبة، ولم يبق أي مولود على قيد الحياة ولم يستطع أحد دفن الموتى، لذا غطوهم بالعشب وتركوهم “لقدتم كل ذلك والمروحيات الإسرائيلية تحلق فوق رؤوسهم لطردهم”.
صمود بطولي
حاول اليهود عدة محاولات للتغلب على هذه المدينة وجارتها مدينة الرملة ولكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل ولم ينجحوا من ورائها إلا الهزيمة، ولقد ساعدت مدافع الميدان الثلاثة التي استولى عليها المناضلون في محطة سكة حديد المدينة، على إيقاع الرعب في نفوس العدو رغم أن ضرباتهم كانت غير محكمة التصويب، بسبب عدم وجود الأجهزة الخاصة لتعيين المسافة على المدفع، كما أن عدم توفر القابل اللازمة لاستعمالها كان من بين المصاعب التي واجهت المناضلين إلى أن تم صنع قنابل محلية في ورشة للحديد والعب كما حول عدد من السيارات إلى مصفحات جهزت بالرشاشات، وكان مناضلو اللد سداً منيعاً ومرداً لإخوانهم مناضلي الرملة.
دخول الجيوش العربية
حل يوم 15 آيار 1948، ودخلت الجيوش العربية لفلسطين فتولت أمورها بصفة عسكرية ووصل إلى قطاع مدينة اللد والرملة (إدريس بك سلطان) الذي عين حاكماً عسكرياً للمنطقة واتخذ من قسم البوليس الواقع بين اللد والرملة مركزاً له. استمر في صد اعتداءات من يؤدون واجبهم في الدفاع عن مدينتهم، ويتعاونون مع مناضلي الرملة في صد اعتداءات اليهود المتكررة على الرملة إلى أن حلت الهدنة الأولى، وتوقف القتال على كافة الميادين وما أن حل صباح اليوم التالي حتى كان اليهود قد احتلوا جميع القرى العربية الجبلية شرقي اللد، التي كانت ظهيراً للمدينة في الشرق.
بؤرة المقاومة
يقول الحاج أبو داوود خليل كركر، ابن مدينة اللد، وهو من مواليد (1934) ومن عايشوا فترة المجزرة بحذافيرها: كل من يعود إلى التاريخ وكتبه يظهر له الدور الكفاحي الذي خاضه أهل البلد خلال فترة الدفاع عن فلسطين، بمختلف الأوقات. وقد برزت اللد وأهلها في هذه المعارك وكانت مصدر دعم وحماية للقرى المحيطة مثل العباسية اسمها اليوم “يهود” وكفر عائلة (أور يهودا اليوم) والخيرية وسلمة “كفار شليم” وبيت دجن وعنابة وقولا وانبال نبالا وعنبتا واللطرون وجكزو وصرعة وصوبا وغيرها.
ويضيف: ومعروف أيضا أن اللد كانت مدينة مزدهرة فيها “الخير عجايب”، “والناس ايد واحدة” “وبدهم يبقوا في بلدهم”. ويقول أيضا: “الأجواء كانت ممتازة. روح المقاومة كانت قوية.. والشباب كله تطوع لحماية البلد والمنطقة.. كنا نحرس اللد وقراها، حتى سلمة البعيدة. كل ليلة كان يجري هجوم عسكري على اللد، ونحن نقاوم ونمنع احتلالها.. بل منعنا احتلال سلمة كما قلت والخيرية وواد وغيرها”.
ويتابع الحاج أبو داوود حديثه قائلاً: “مرة هجموا قبل الهدنة الأولى (من 11/6/1948-1948) خرج شبان اللد واستردوا بيت دجن التي لم يكن أحد يحميها. وحرر الشباب فرده.. وواصل أهل البلد الدفاع عنها وعن منطقتها.. حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم.. وجدنا أنفسنا وسط حمام من الدم.. نعم كان في اللد في ذلك العهد “بؤرة المقاومة” وعلم أن القائد الفلسطيني حسن سلامة حاول كسح طوق المؤامرة.. ونظم أبناء بلده من أجل الدفاع عن الأرض والوطن والبيت”.
جثث مبعثرة في كل مكان
مراسل صحيفة “شيكاغو صن تايمز” كايث هوللر، كتب في مقال ظهر تحت عنوان “تكتيك الحرب الخاطف”: ((إن الشحنات الإسرائيلية خلفت وراءها عمليا الموت والدمار في كل شيء وهي تكتسح المدينة. كانت “الجثث المشوهة ملقاة على جوانب الطرقات”. ولم تكن جميعها من أفراد الجيش العربي الذين كانوا يدافعون عن المدينة)). وكذلك أشار كينيث بيلبي، مراسل صحيفة “نيويورك هيرالد تربيون” الي دخل إلى اللد برفقة ضابط مخابرات إسرائيلي إلى أن “جثث النساء والرجال والعرب وحتى الأطفال: كانت مبعثرة في كل مكان، عقب الهجوم الصاعق والخالي من الشفقة”.
وتقول تيفا بن يهودا وهي شابة من أعضاء البلماح: ((إن جندياً جال في شوارع اللد واعداً عبر مكبرات للصوت أن كل من يدخل المساجد سيكون في مأمن”. فتدفق مئات من العرب إلى داخل مسجد دهمش، معتقدين أنه لن يصيبهم أي أذى في حال جلسوا هادئين وأيديهم فوق رؤوسهم)). ولكن ما تذكره بن يهودا هو أن “شيئاً قد وقع. “فبعد الاستسلام قامت مجموعة من العرب بهجوم بالقنابل اليدوية تسبب في مقتل العديد من الجنود الإسرائيليين فانتقم الإسرائيليون بقتل أكثر من ثمانين سجيناً عربياً، بقيت جثثهم مرمية لعشرة أيام في حرارة تموز فأرعب مجزرة دهمش السكان في اللد.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]