بدأ صاحبي يقص عليّ قصته قائلا : " أحببتها كأشد ما يحب رجل امرأته ، وما أزال ... ، فأنا لم أعرف غيرها امرأة ، إذ عصمني الله تعالى عما يقع فيه كثير من شباب هذا الزمان ، فلم أعش ما يسمى بالمراهقة ولم تأخذني شِرَّة الشباب وجِدّتَه، ولم تحدثني نفسي بشيء مما يمكن أن يجلب علي أمورا أندم عليها في دنياي أو أخراي ، إلا خواطر كانت تزول سريعا ، وكان شعاري الذي أتمثله دائما هو قول نبي الله تعالى يوسف بن يعقوب ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ).
وقول الشافعي رضي الله عنه :
إِن الزِّنـــا دَيْـــنٌ فــإِن أقرضْتَــه ... كان الوفــا من أهلِ بيتك
فاعلمِ
من يَـزنِ يـًزنَ بــه ولو بجدارهِ ... إِن كنْــــتَ يا هــــذا لبيـــباً
فافهمِ
وكانت حياتي - في جٌلها - بين الكتب ، اتخذتها لي صديقا ، ألجأ إليها حين أشعر من نفسي ضيقا ، فأجد فيها متنفسا ، أعيش بين صفحاتها مع أناس لا يُمَلُّون ولا يَمَلُّون ، وكان ذلك مدعاة لإعجاب المحيطين بي لسعة اطلاعي ، ورحابة آفاقي المعرفية ، وكنت أعرف الحب بين "ثنايا" الصفحات وأطباق المجلدات ، فعرفت كُثَيرا وعَزَّاه ، وقيسا وليلاه وبلوت أخبار بَريرةَ ومُغيثاً ، واتخذت منهم أصحابا أسْمُرُ معهم تحت دوح الكمات الرقيقة ، فإذا عاتبت ليلى مجنونها على ولهه بها أنشد :
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحبّ أعظم ممّا بالمجانين
الحبّ ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنّما يصرع المجنون في الحين
فإذا طار ذلك الشعر في الآفاق وسٌئلت عنه قالت:
لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كـــما كانا
لكنــــه بــــاح بســـــرّ الهوى ... وإنّني قـد ذبـت كتمـــــانا
هذا ما كنت أعرفه عن حب الرجال النساء ، وكنت في كثير من الأحيان أرفع حاجبا وأخفض الآخر استغرابا واستبعادا لما يقوله الشعراء ، وأعده نوعا من المبالغة ، فعنترة حين يخاطب ابنة عمه ويقول :
وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
كنت أعده مدعيا ومغاليا في تلك الأوصاف ، ورأيت في كلماته تلك بعضا مما ذكره الله تعالى في الشعراء في قوله " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) ولما وقع تحت يدي كتاب " طوق الحمامة في العشق والعشاق والألفة والأًلّاف " للإمام ابن حزم الظاهري ، وقرأت الفصل الذي رَوَّسه بعنوان "من أحب من نظرة " عددته ضربا من الخيال فلم أكن أصدق أن أحدا يمكن أن يحب من نظرة ، حتى وقعت عيني عليها حين جئت أهلها خاطبا إياها ، فما إن رأيتها حتى وقعت لليدين وللفم ، فنسيت ما كان يمر بخاطري من النساء ، وزالت كل صورة كان عالقة في ذهني عنهن ، ولم تبق إلا صورتها ، فلم تفارقني في ليل ولا نهار ، فقد اختزلت في شخصها كل النساء ، في عقلها وأدبها وجمالها والأهم من ذلك دينها ، لذلك صرت أعد الثواني واللحظات حتى نجتمع تحت سماء واحدة وكان لنا ذلك....
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]