"الديموغرافيا" بشكل عام هو علم ميزان التعداد السكاني ويوفر المعطيات وقاعدة البيانات المطلوبة لبناء استراتيجيات إدارة السكان وتوفير الخدمات والاحتياجات لهم؛ فمثلاً تبني الدولة- السلطة الرسمية - سياساتها التخطيطية المستقبلية من البناء والإسكان والعمل والتوظيف والبنى التحتية وتوفير المتطلبات الأولية الضرورية لحياة البشر، على هذه المعطيات.
أمّا بخصوص المؤسسة الإسرائيلية، فإن موضوع الديموغرافيا يأخذ منحىً آخر ويؤسس لسياسات أخرى أقل ما يقال عنها انها عنصرية؛ وقبل الحديث عن السياسات الإسرائيلية وعلاقة ذلك بالديموغرافيا، ننقل لكم نظرتها للتعداد السكاني الفلسطيني في هذه البلاد؛ وحقيقةً يذهل المرء السوي من حجم الاهتمام الإسرائيلي الرسمي بالسياق الذي يضعون فيه الديموغرافيا سواءً الفلسطينية أو الإسرائيلية.
في هذا الخصوص تنظر إسرائيل الى الديموغرافيا الفلسطينية من منظورين؛ منظور يبيّن نسبة العرب مقابل اليهود داخل حدود المؤسسة الإسرائيلية، ومنظور الميزان السكاني بين العرب واليهود ما بين النهر والبحر ما يشمل بالضرورة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
بما يخص الديموغرافيا الفلسطينية، فقد صنفوها بأنها تشكل "تهديداً" ليهودية الدولة وقد بنت الدولة الرسمية سياساتها جميعًا على هذا الأساس ومن هذا المنطلق؛ وللعلم فإن الحديث عن الديموغرافيا يبحث في معدّلات الخصوبة، الهجرة الداخلية، والحديث عن الديموغرافيا في سياق المواطنة، أمّا الجزء الآخر فيبحث في التغييرات الديموغرافية داخل المجتمع سواء الإسرائيلي أو العربي، حتى أنه تطور علم يسمى "هندسة الديموغرافيا"، ودور السلطة الرسمية في الحد من الديموغرافيا العربية، في مقابل تشجيع الديموغرافيا اليهودية.
وهذا النوع من العلم في السياق الإسرائيلي قاد المؤسسة الرسمية إلى تعريف الوجود العربي “كتهديد ليهودية الدولة”، وهذا يعني أن السلطة الرسمية فرضت سلفا معادلة تصادمية بين الديموغرافيا العربية واليهودية في هذه البلاد، وليست علاقة تعايش بزعمهم، وهذا مهم جدًا لفهم السياسة الإسرائيلية المتعلقة بتعاملها مع الوجود العربي.
وهنا أود أن أعرض لكم النظرة الإسرائيلية الرسمية بخصوص تعاملها مع قضية التعداد السكاني العربي:
في عام 1967 أقامت إسرائيل "الهيئة الإسرائيلية للديموغرافيا" تابعة لمكتب رئيس الحكومة، وذلك بهدف “العمل بشكل ممنهج لتحديد سياسات ديموغرافية من أجل خلق أجواء وظروف مناسبة لتشجيع الولادة الأمر الذي يعتبر ضرورياً للشعب اليهودي”.
وحددت هذا الهيئة الأسس الرئيسية في السياسة الديموغرافية الإسرائيلية الرسمية، ويمكن تلخيصها على النحو التالي: “نشر الوعي في المجتمع العربي في إسرائيل لمصطلح ” تنظيم الأسرة”، وإعطاء مخصصات مباشرة وغير مباشرة للمجتمع الفلسطيني لتشجيعهم على الهجرة، تشجيع سياسة تحرير المرأة العربية، وبالأساس رفع مستوى التعليم عند المرأة الفلسطينية، كل ذلك من أجل تخفيض معدل الخصوبة الطبيعية عند الفلسطينيين”.
وفي سنة 2003 صرح بنيامين نتنياهو: “عندنا مشكلة ديموغرافية وهي محددة ليس فقط في عرب فلسطين بل في عرب إسرائيل….ومن أجل منع الديموقراطية إبطال الطابع اليهودي للدولة، فعلينا تأمين أكثرية يهودية”. وفي مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي والذي خصص لموضوع الديموغرافيا وكان عنوانه: “ميزان التحصين والأمن القومي”، أظهرت إسرائيل الديمغرافيا الفلسطينية على أنها تشكل “خطرًا وتهديدًا” على الحيز العام، وعلى طابعها، وعلى وجودها فضلًا على أنها –أي الديموغرافيا الفلسطينية- في نظرهم تشكل ثقلًا على المجتمع الإسرائيلي ككل.
وفي عام 2000 تنادت مجموعة إسرائيلية فكرية ودينية وعسكرية وسياسية، قوامها ثلاث مائة شخصية، لإجراء نقاش استراتيجي حول مستقبل إسرائيل، وقد اجمعوا على أن الخطر الوجودي الوحيد الذي يهدد وجود إسرائيل هو الخطر الديموغرافي، ووضعوا مجموعة توصيات لحلول وبدائل مختلفة منها: تبادل سكاني، وتنفيذ سياسة ترانسفير- أي ترحيل جماعي- بالقوة للفلسطينيين إلى الخارج.
في عام 2007 كتب أرنون سوفر والملقب بـ “عدّاد العرب” وهو جغرافي وناشط في موضوع الديموغرافيا: “دولة إسرائيل ممكن أن تستمر فقط بأكثرية يهودية صهيونية واضحة…. التغييرات الديموغرافية العربية في إسرائيل تهدد القدرة على تحقيقها”.
إن الديموغرافيا من وجهة النظر الإسرائيلية هي مسألة وجودية، أي تتعلق بالدرجة الأولى بالحفاظ على يهودية الدولة، وهو المعيار الأول والأهم من وجهة النظر الإسرائيلية، وكل الطيف السياسي الإسرائيلي يتفق على تشخيص “الخطر الديموغرافي الفلسطيني” ويختلفون فقط حول آلية التعامل معه.
وبما أن هذا المقال لا يتناول المسألة الديموغرافية من منظور بحثي أكاديمي، فما أودّ تأكيده هو حجم الاهتمام الإسرائيلي في المسألة الديموغرافية الفلسطينية وتعريفها كخطر وجودي يهدد إسرائيل كدولة هو الأهم، ويبنى عليه تحليل ورسم سياسات تعامل المؤسسة الإسرائيلية معنا كعرب.
وهنا يطرح السؤال المطلوب: إذا كانت إسرائيل قد عرّفت الوجود الفلسطيني على أرض آبائهم وأجدادهم كـ “خطر” وليس أي خطر، بل خطرٌ وجودي، فهل يعقل أن تترك هذا الخطر يتمدد دون رقيب ولا حسيب؟ وهل من الوارد ان تتعامل مع هذا ” التهديد” من منطلق الشعور بالمسؤولية تجاه من عرّفتهم بأنهم “مواطنون”؟ أم أنها صنفتهم كـ “أعداء” سلفا، وبالنتيجة فهي تتعامل معهم وفق هذا التوصيف؟
وإذا تعاملت مع الوجود العربي من منطلق التعامل مع الأعداء، فما هي الاستراتيجية التي تبنتها -وما تزال- من أجل “تحييد” هذا الخطر وهذا التهديد؟
وقطعا يحق لنا أن نتساءل: من الذي فخّخ مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل، وأغرقه في فوضى العنف والجريمة؟ وما الهدف من هذا التفخيخ الذي بتنا نرى آثار فعله فينا كل يوم، بما يوقعه فينا بين قتيل وجريح ومشرد ومطارد، وأصبح فقدان الأمن الشخصي والمجتمعي سمة طاغية وعنوانا صارخا لهذه المرحلة الحرجة.
وبالضرورة لنا أن نتساءل: هل باتت الجريمة والعنف إحدى أدوات السلطة الرسمية الظالمة لمواجهة الـ “الخطر والتهديد” السكاني العربي؟
وفي مقابل هذا التفخيخ هل تعرّض مجتمعنا لمخطط خبيث لتجفيف وتحديد النسل تحت غطاء ما يسمى تنظيم الأسرة وحقوق المرأة بما في ذلك القيود القانونية لتحديد سن الزواج وتجريم تعدد الزوجات وتشجيع المرأة على الخروج لسوق العمل على حساب بناء الأسرة السوي، وما هي وسائل وأدوات التغييرات الاجتماعية التي تعرضنا لها-وما نزال- من أجل تنفيذ هذا المخطط الآثم؟
كل هذه الأسئلة بحاجة الى إجابات واضحة وصريحة منا أولاً، حتى نعي ما يدور حولنا، ولنتمكن من تجنب الوقوع في المحرمات الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والتي من شأن الوقوع في براثنها إهلاك نسلنا، ومحو هويتنا الجمعية، وتهديد استمرارية وجودنا على أرض الإسراء والمعراج.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]