علمتنا الحياة أن هنالك أربعة أصناف من العيون، الأولى هي التي ترى الواقع بوضوح بكل ما فيه من تفاصيل كانت كبيرة ام صغيرة تصف الحال بصدق وأمانة وهي الأنفع والأجدى، والثانية هي التي ترى كل شيء كذلك ولكنها تغض الطرف عن الكثير من التفاصيل لإرضاء نفسها وإشباع غرائزها إنسجاما مع مصالحها تصف الحال بناء على اولوياتها وطرحها المحدود!، وأما الثالثة تعاني من محدودية الإدراك والرؤية لأنها ترى من زاوية واحدة معتمدة على العين الأولى أو الثانية وهي كالإمعة تسير مع التيار أينما جرى، وأما العين الرابعة والأخيرة فهي عين كفيفة محجوبة عن الواقع ومغيبة عن مجريات الأمور لأنها اختارت العُزلة والإنطواء وسلمت امرها لمن سبقها من العيون للبت بتفاصيل حياتها!.
فلو سَلَطنا أنظارنا بمقاييس العين الأولى بشكل عميق إلى مجتمعنا العربي في الداخل الفلسطيني لرأينا وباء العنف يتفشى في جسد شعبنا المرابط ويمزقه يوما بعد يوم، فحمام الدم القاني جبى مئات الضحايا في السنوات الأخيرة الذين أزهقت ارواحهم في محرقة آفة الجريمة الخطيرة التي مزقت أوصال المجتمع وفككت كيانه!!، سنجد في السواد الأعظم من الجرائم غياب سُلطة القانون بشكل مستفز ومثير للإستهجان والسخرية في آن واحد، ولكن ما العجب لو علمنا أيضا أن هذه الشرطة التي يجب أن توفر الأمن والأمان هي نفسها قتلت برصاصها الرسمي عشرات الشبان العرب منذ عام 2000م، وطبعا لم نرى هنا كذلك تقديم لوائح إتهام وإدانة بحق مقترفي تلك الجرائم من جهاز الشرطة من قبل وحدة التحقيق مع افراد الشرطة "ماحاش".
فبعد تلك المعطيات التي يعرفها البعيد والقريب والعدو والصديق، علينا أن نعي أننا أمام واقع مؤلم يزداد وجعه بوتيرة متصاعدة يوما بعد يوم حتى نكاد نصف حال العنف والجريمة في بعض بلداتنا العربية في الداخل الفلسطيني أنها وصلت إلى درجة الإنفلات الأمني الخطير في ظل غياب سُلطة القانون!، وعلى ما يبدو أن المؤسسة الرسمية لن تحرك ساكنا حيال هذا الواقع المرير ولن تعمل بذات الجدية والمهنية التي تعمل بها للتصدي لأحداث العنف في المجتمع اليهودي لتحول دون سفك المزيد من الدماء في الوسط العربي!، لذا هذه الظروف القاهرة والأوضاع العصيبة تلزمنا كمجتمع مدني من طرح البديل "المدني" من جمعيات ومؤسسات ومشاريع لمجابهة هذه الظاهرة التي تنهش لحمنا صباح مساء دون استثناء وفق امكانياتنا المتوفرة والمحدودة طبعا، فتلك الشموع البسيطة خير الف الف مرة من أن نقف متفرجين نلعن الظلام دون بذل أدنى جهد للتخلص منه "ظاهرة العنف"!.
فمنذ البداية أقول أن من يبحث عن حلول سحرية وسريعة عبر مؤسسات المجتمع المدني فهو واهم!، ولكن سأقوم خلال السطور القادمة من عرض العديد من الحلول التي قد نستطيع خلالها من تقليص وحسر وتحجيم هذه الظاهرة الخطيرة، والتي نلخصها في دور الأسرة والمدرسة والبلديات والمساجد ورجال الأعمال والمجتمع ككل..
فلا يمكن لأحد إنكار دور الأسرة في العملية الإصلاحية، فالمجتمع بنهاية المطاف مكون من الأسر والعائلات، فلو سلطنا الضوء على العملية التربوية اليوم في الكثير من الأسر سنجد فجوات عميقة فيها حتى أمست دفيئة حاضنة لهذه الظاهرة الخطيرة، وذلك بداية من العنف داخل الأسرة!، تفشي ظاهرة الطلاق وإنفصال الوالدين، إنشغال الوالدين وإنغماسمها في أعمالهما الخارجية بعيدا عن تربية الأولاد وذلك لسد الاحتياجات الإقتصادية للعائلة!، وجميع هذه الأسباب المركزية تغذي واقع العنف بشكل مباشر مع حرمان الاولاد من تلقي القيّم التربوية الحقيقية التي يجب ان تنغرس في الأطفال، وهنا لا بد من طرح مشاريع تربوية ودورات إرشادية للأزواج الشابة لتقليص العوامل الثلاث التي ذكرناها مما يعني أن هنالك نسبة أعلى من البيوت المستقرة الآمنة وبالتالي مجتمع أقل تفككا وضياعا..
أما المدارس، فلا بد من إضافة حصص دراسية حول غرس القيّم والأخلاق الحميدة في عقول الطلاب تماما كحصص العربي والانجليزي والرياضيات..، أضف على ذلك فإن خبرة الطاقم التدريسي ومهنيته تمنحه قدرة على إكتشاف الطلاب ذوي النزعة العنيفة الذين قد يتحولون عند بلوغهم لمجرمين، فيجب تخصيص دروس إضافية خاصة لهؤلاء الطلاب مع عرضهم المستمر على الأخصائيين النفسيين والإجتماعيين لكبح جماح العنف في نفوسهم وإرشادهم لإنقاذهم اولا وتأمين المجتمع من أضرارهم لاحقا، وهذا دور حقيقي لا يجوز لجهاز التربية والتعليم إهماله وغض الطرف عنه، مع علاج ظاهرة التسرب من المدارس والحيلولة دونها!.
أما البلديات والمجالس المحلية فهي أيذا تتحمل جزء من اعباء المشروع الإصلاحي، فلو قامت تلك المؤسسات التي انتخبها المواطنين لتوفير احتيجاتهم والخدمات الأساسية لهم من بناء مراكز مسائية تحتضن الشباب من الشوارع وأخطارها وتأسيس ودعم فرق رياضية ومراكز توجيهية من شأنها توفير حضن دافئ جدا لشريحة واسعة من الشباب بعيدا عن أخطار الشوارع من عنف ومسكرات ومخدرات..
أما الدعاة والمشايخ ينبغي عليهم التكثيف من دورهم الدعوي والوعظي والإرشادي لإستقبال أوسع شريحة من الشباب في المساجد، فالمعادلة جدا بسيطة كل شاب كسبه المسجد يعني بالدرجة الأولى إبعاده عن احداث الجريمة والعنف في معظم الأحيان!، وهنا لا بد للحركات والجماعات الإسلامية من إنشاء مؤسسات ومشاريع تستقطب هؤلاء الشباب وتوفير دائرة تربوية لهم وهذا جزء من مهم من الدعوة والدين!.
أما رجال الأعمال فهم كذلك يتحملون مسؤولية واضحة في العملية الإصلاحية فلو وسع هؤلاء نشاطهم التجاري ومؤسساتهم الإقتصادية بشكل مدروس وعملي فسيقومون بتقليص نسبة البطالة بين الشباب وتوفير فرص عمل لهم في بلداتهم، ولهم في ذلك اجر كبير عند الله تعالى، وربح في الدنيا باذن الله.
وأخيرا المجتمع كله عليه توحيد الجهود ورص الصفوف وبناء لجان إصلاح في كل قرية ومدينة تقوم بحل المشاكل والأزمات قبل ما تصل إلى درجة عدم القدرة من السيطرة عليها وما يعنيه ذلك من المزيد من الدماء والضحايا..، وكذلك يجب على المجتمع أن يقوم بمقاطعة جماعية عامة لمن تبيّن أنه يقف فعلا خلف جريمة قتل أو أكثر حتى يتوب ويصتلح ويلتزم بالحفاظ على القيم الإجتماعية والإخلاقية التي من شأنها بناء مجتمع اكثر امنا وامانا.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]