في 9 أبريل/ نيسان 1948، وقعت مذبحة دير ياسين التي تُعد منعطفا مهماً وخطيراً في حياة الشعب الفلسطيني، لأن اليهود استخدموها كأكبر وسيلة لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين، ولأن الكثير من الفلسطينيين فروا للمحافظة على الأرواح والأعراض. وأرجع بعض المؤرخين سبب النكبة إلى هذا التاريخ، حينما قام تنظيم الهاغانا بقيادة “مناحم بيغن” باقتراف مذبحة ضد المدنيين في قرية دير ياسين، وقتل فيها أكثر من 245 فلسطينيًا من المدنيين، مما أصاب العرب بهلع حيث كانوا يفرون من أمام اليهود.
تقع قرية دير ياسين بالجانب الغربي من مدينة القدس وعلى بعد أربعة كيلومترات فقط عن المدينة المقدسة. وتذكر المصادر أن عدد سكان قرية آنذاك كان 750 نسمة فقط ومعظم رجال القرية يعملون في المحاجر والكسارات داخل القرية، ويتألف سكان القرية من خمسة حمائل هم: حمولة عقل، حمولة حميدة، جابر، شحادة، وحمولة عيد، إضافة إلى عائلتين وهما: عائلة مصلح وعائلة جندي، وكان يوجد في القرية ثلاثة مواطنين فلسطينيين من خارج القرية وهم الشهداء عبد الخليلي وولده وكانا يعملان في فرن القرية والشهيدة المعلمة حياة البلبيسي والتي كانت تعمل مدرسة في مدرسة إناث القرية.
تطهير عرقي ممنهج
وقعت مجزرة دير ياسين ضمن عملية خطة نحشون (5 -15 ابريل) 1948 أولى العمليات في خطة “دالت” التي وضعتها منظمة الهاغانا في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948، كان الهدف من الخطة بحسب واضعيها السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وإثارة الرعب بين السكان ومحاصرة القرى والبلدات والأحياء الفلسطينية وقصفها وحرق المنازل والأملاك والبضائع وهدم البيوت والمنشآت وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع السكان من العودة إلى قراهم وبلداتهم وأحيائهم، وهو الأمر الذي كشفه عدد من المؤرخين الجدد اليهود من أمثال بيني موريس، وشيما فلابان، وآفي شلايم وايلان بابيه.
تجلت طبيعة خطة “دالت” المنهجية والمنظمة جيداً في دير ياسين. وهي قرية هادئة ومسالمة توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع الهاغانا في القدس، لكن حُكم عليها بالهلاك لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة دالت أهدافا للتطهير. ولأن الهاغانا كانت وقعت اتفاقاً مع القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن، كي تعفي نفسها من أية مسؤولية رسمية. ويُذكر أنه في التطهيرات اللاحقة لـ “القرى الصديقة” تخلت الهاغانا حتى عن اعتبار هذه الخدعة ضرورية.
وقوع المجزرة
ويذكر مؤرخون أن سبق وقوع مجزرة دير ياسين، مواجهة وقعت بين مجموعة من دير ياسين والقوات اليهودية المرابطة بين جفعات شاؤول، في محجر يملكه الحاج “أسعد رضوان” على خلفية ما جرى في حي “روميا” بالقدس رداً على تعرض أحد الباصات اليهودية للنسف، ففُرض الحصار على أهل القرية في شهر أيلول سنة 1947. وخلال الحصار قامت مجموعة كبيرة من أفراد العصابات الصهيونية بمهاجمة مقهى “صالح عيسى اللفتاوي” ثم حاولوا السيطرة على أحد المحاجر. وبدا عراك بين أصحاب المحجر والعصابات اليهودية، قتل خلالها اثنان من المهاجرين اليهود. وبعد هذا الحادثة أقفلت الطرق المؤدية إلى المحجر وبقي الحصار لعدة أشهر. إلى جانب ذلك فقد وقعت المجزرة بعد استشهاد عبد القادر الحسيني وسقوط القسطل في 9 أبريل/نيسان 1948، ما أدى إلى تدهور معنويات جنوده إلى حد أن القرى الأخرى في القدس الكبرى سقطت كلها بسرعة بأيدي القوات اليهودية. حوصرت واحدة تلو الأخرى، ثم هوجمت واحتلت، وطرد سكانها، وهدمت بيوتهم ومبانيهم. وفي عدد منها، رافق الطرد مجازر كان أسوؤها صيتاً المجزرة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، يوم سقوط القسطل نفسه، في دير ياسين.
بدأ الهجوم على قرية دير ياسين ولقد شاركت فيه آنذاك، وحدة البلماخ مزودة بمدافع هاون، ويذكر كتاب “تاريخ الهاغانا” أن قائد الهاغانا في القدس دافيد شلتئيل اطلع على مخطط الارغون وشتيرن للهجوم على دير ياسين، وبلغ قائدي هاتين الجماعتين عن احتلال القرية والاحتفاظ بها كجزء من خطة الهاغانا العامة لعملية نحشون، مع العلم أن دير ياسين كانت قد وقّعت مع الهاغانا اتفاق عدم اعتداء. وعند بزوغ فجر 9 أبريل/نيسان 1948، شنّ 120 رجلا (80 من الارغون و40 من شتيرن) هجوما على القرية واستنادا إلى هذه الرواية، قتل 4 من المهاجمين.
وجاء في كتاب “تاريخ الهاغانا” أن منشقون نفذوا مذبحة في القرية من دون أن يميزوا بين الرجل والنساء والأطفال والشيوخ. وأنهوا عملهم بأن حملوا قسما من الأسرى الذين وقعوا في أيديهم على سيارات وطافوا بهم في شوارع القدس في موكب نصر وسط هتافات الجماهير اليهودية. وبعد ذلك أعيد هؤلاء الأسرى إلى القرية وقتلوا. ووصل عدد الضحايا من الرجال والنساء والأطفال إلى 245 شخصا.
وفي أثر المجزرة، رافق رجال من عصابة الارغون وشتيرن جماعة من مراسلي الصحف البريطانية، بينهم مراسل لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أحد المنازل مستعمرة جفعات شاؤول القريبة، وراح منفذو المجزرة يسردون تفاصيل العملية وهم يحتسون الشاي ويتناولون الكعك! وقالوا إنهم نسفوا عشرة منازل من القرية وفجروا أبواب بعض المنازل وألقوا قنابل يدوية داخل منازل أخرى. وأعلن الناطق باسمهم أن القرية صارت تحت سيطرتهم خلال ساعتين.
وفي صيف سنة 1949، استقر عدة مئات من المهاجرين اليهود بالقرب من دير ياسين، وأطلق على المستعمرة الجديدة اسم جفعات شاؤول بنيت تيمناً بمستعمرة جفعات شاؤول القديمة التي أنشئت في سنة 1906. وقد كتب أربعة مفكرين إسرائيليين بارزين إلى بن غوريون قائلين أن ترك القرية خالية هو بمثابة “رمز فظيع مأساوي”. إلا أن مناشداتهم المتكررة ذهبت سدى ولم يستجب لها.
وقد حضر افتتاح غفعات شاؤول “ب ” عدة وزراء والحاخامان الأكبران لإسرائيل ورئيس بلدية القدس الإسرائيلي، وقد انتشرت مستعمرة غفعات شاؤول اليهودية المجاورة في القطاع الشرقي من القرية، واليوم طغى على تل دير ياسين ومقعها من الجهات كلها التوسع العمراني للقدس الغربية. وفي سنة 1980، أعاد الاحتلال الإسرائيلي البناء فوق المباني الأصلية للقرية، وأطلق أسماء العصابات الإسرائيلية (الأرغون وإتسل والبالماخ والهاغاناه) على أماكن فيها.
قالوا عن المذبحة
تفاخر ذلك المجرم مناحيم بيجين بتلك المذبحة في كتابه الثورة حيث قال “كان لهذه العملية نتائج كبيرة غير متوقعة، فقد أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي فأخذوا يفرون مذعورين.. فمن أصل 800 ألف عربي كانوا يعيشون على أرض “إسرائيل” -فلسطين المحتلة -عام 1948 لم يتبق سوى 165 ألفا ” وقال أيضا “لقد خلقنا الرعب بين العرب وجميع القرى في الجوار وبضربة واحدة، غيرنا الوضع الاستراتيجي”.
وقال مائير باعيل قائد الوحدات الخاصة في الهاغانا في حديث له في جريدة يهودية أنه ما حدث وبعد مغادرة رجال البلماح بدأ عصابات الأرغون وشتيرن المجزرة، قتلوا من دون تردد رجالاً ونساء وأطفال بعد صفهم صفوفاً على الجدران وفي زوايا المنازل.
الياهو اربل أحد ضباط الهاغانا والذي اشترك في المذبحة، في مقابلة مع صحيفة إسرائيلية عام 1972 قال “لقد اشتركت في حروب كثيرة إلا أني ما رأيت منظرا كدير ياسين”.
أما مندوب الصليب الأحمر الدولي في القدس حينذاك جاك دي رينيه فقد شاهد نساء من بين أفراد العصابات وهن يحملن سكاكين ملطخة بالدماء ويخرجن من القرية بعد يومين من وقوع المجزرة، حيث قال بالنص الحرفي: “كان أغلب أفراد العصابة، سواء الرجال منهم أو النساء، من الأحداث، وبعضهم في سن المراهقة. كانوا جميعاً مدججين بالسلاح، يحملون المسدسات والرشاشات والقنابل والسكاكين الطويلة. وكان معظم السكاكين ملطخاً بالدماء. واقتربت مني شابة وسيمة ذات عينين مجرمتين وأرتني، بتباهٍ، سكينتها التي كانت ما زالت تقطر دماً. وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير، وأنه كان يقوم بمهمته خير قيام”.
د. الفرد انجل الذي رافق مبعوث الصليب الأحمر في زيارته الثانية لساحة المذبحة قال “كنت مع الجيش الألماني طبيبا لخمس سنوات خلال الحرب العالمية الأولى إلا إني لم أرى مثل دير ياسين قط”.
أما القنصل الأمريكي روبرت مكات يقول في تقريره للخارجية الأمريكية “إن الأطفال كانت تبتر أطرافهم وتكسر ضلوعهم، وإن شارون ارتكب من المجازر ما يفوق ما ارتكبه هتلر بشاعة، بل وجميع الدكتاتوريين الذين عرفتهم الإنسانية، إنه كان يجمع الأعضاء التناسلية للأطفال في جعبته وكان يباهي بها قيادات تنظيم الهاغانا”.
شاهدة على المذبحة
وتروي الحاجة زينب الياسيني (أم عزيز) وهي إحدى الناجيات من مذبحة دير ياسين في منطقة الشياح، عند مفرق باب العامود بالقدس وتقول: “عندما كنت مارة بالطريق مع الأسرى، مررت باب عمي صالحية زوجة شاكر مصطفى. كانت مقتولة في منتصف الطريق وعلى ذراعها مقتول أيضا ابنها إسماعيل. وكانت صالحية ساعة بدء المجزرة تخبز عجينها في الفرن، فهرعت إلى البيت لإنقاذ طفلها وتحير زوجها. وعندما كانت خارجة من البيت، وطفلها على صدرها طخوها فاخترقت الرصاصة جسدها وجسد طفلها، فارتميا معاً”.
وشاهدت أم عزيز العصابات الصهيونية وهي تقتل شقيقها دون أن تستطيع مساعدته، وبعد أن فقدت زوجها ولم يتبق لها إلا طفلها ابن السنتين ونصف السنة من العمر، وطفلتها الرضيع ابنة الشهور الخمسة وجنينها الذي كانت تحمله في أحشائها، ثم أنجبته بعد في سلوان. وتحكي كيف سرقت العصابات ممتلكات أهالي دير ياسين من ذهب ومال وتروي حين حملوها في حافلة مع غيرها من النساء وبدأوا يفتشونهن بحثاً عن والذهب وتقول: “عندما صعدوا إلى الباص وبدأوا عملية التفتيش، خاف ابني أن يفتشونا وكان معه 60 قرشاً وزوجاً من الحلق (الأقراط)، فأخرجهم من جيبه وأعطاهم لليهودية”.
_______________
المصادر:
(1) -ايلان بابيه، “التطهير العرقي في فلسطين”، ص 98، 102.
(2) -إبراهيم أبو جابر، “جرح النكبة” الجزء الأول، ص 139، 159.
(3) -وليد الخالدي، “كي لا ننسى” (1997). مؤسسة الدراسات الفلسطينية
(4) -مواقع الكترونية
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]