كانت القدس ويافا ونابلس أكثر مدن فلسطين تفجراً وغليانا خلال الثورة الكبرى، وقد نفذت في يافا أعلى نسبة من عمليات القنص وإلقاء القنابل لذا اتخذ القائد العام البريطاني الجنرال بيرز، سلسلة من الإجراءات الانتقامية ضد تلك المدن كان أبرزها نسف مدينة يافا القديمة بهدف إعادة الأمن إليها، وتشغيل الميناء باستخدام عمال غير المضربين، إذا أصروا على مواصلة الإضراب. وهذا يتناقض مع ادعاءات بريطانيا، بأن عملية النسف كانت من أجل تحسين المدينة وتوسيعها وشق الطرق فيها.
وتنفيذا لذلك ألقت طائرة حربية، كانت تحلق في سماء المدينة، الإنذار التالي: " أن الحكومة على وشك البدء في مشروع يرمي إلى توسيع وتحسين البلدة القديمة في يافا، وذلك ببناء طريقين يفيدان المدينة بكاملها، وستبدأ الخطوات الأولى الضرورية بهدم وإزالة بعض الأبنية المزدحمة وغير الصحية، مستغلين فرصة وجود فرق المهندسين الملكية الآن في فلسطين للبدء في هذه الأعمال".
وفعلاً قامت القوات البريطانية بعمليات قصف شديد ومركز لإسكات مصادر نيران الثوار، واستمرت الاشتباكات ثمانية عشر يوماً أن تتمكن القوات البريطانية من السيطرة على المدينة وتجبر سكانها على إزالة المتاريس والحواجز ثم تقوم بنسف البلدة القديمة.
وكانت حصيلة هذه العملية:
- نسف 220منزلاً تسكنها 450عائلة.
- نسف 850 براكية خشبية يسكنها 4000شخص.
- هدم وتشقق عدد من البيوت وتشريد عشرة آلاف مواطن.
بالإضافة إلى إلحاق الضرر بأماكن العبادة وخاصة كنيسة الخضر بحي العجمي، وكنيسة دير الروم، وكنيسة دير اللاتين، ومسجد الشيخ رسلان.
لكن العملية ورغم كل القوة والوحشية لم تحقق الهدف الاستراتيجي للاحتلال البريطاني في إنهاء الثورة ووقف الإضراب. بل إنها كانت حافزاً للثوار في تنفيذ سلسلة عمليات واسعة، غطت فلسطين كلها في ذكرى مرور مائة يوم على الإضراب في 27/7/1936، مما جعل القائد العام للقوات البريطانية الجنرال بيرز، يعترف بعجز قواته عن مواجهة الثوار، ويطالب إمداده بفرقة عسكرية كاملة وسرب طائرات مقاتلة.
في صباح يوم 16/6/1936 ألقت طائرة حربية كانت تحوم فوق المدينة الانذار التالي: “إن الحكومة على وشك البدء في مشروع يرمي إلى توسيع وتحسين البلدة القديمة في يافا، وذلك بناء طريقين يفيدان المدينة بكاملها. وستبدأ الخطوات الأولى الضرورية بهدم وإزالة بعض الأبنية المزدحمة وغير الصحية مستغلين فرصة وجود فرق المهندسين الملكية الآن في فلسطين للبدء في هذه الأعمال”.
وكانت قد صدرت الأوامر للمقدم أوتيرسون – كيلسو بإجراء الاستطلاعات اللازمة ووضع خطة سياسية بالتعاون مع حاكم اللواء الجنوبي كروسبي ومساعده مفتش الشرطة العام فولي. وقد قدم في البداية اقتراحاً يوصي فيه استخدام قوات المشاة لاحتلال المدينة ومن ثم تنفيذ عملية النسف. ولكن الخوف من وقوع الخسائر الكثيرة في صفوف القوات البريطانية جعل تنفيذ هذه العملية أمراً مستعبداً. وفي النهاية قررت القيادة البريطانية تنفيذ الخطة التالية وقد قسمت إلى أربع مراحل:
(1) إطلاق نار كثيفة ومستمرة ضد مراكز الثوار حتى اسكات نيراهم.
(2) فرض عمل إجباري على سكان المدينة لإزالة المتاريس والحواجز.
(3) نسف المناطق الشرقية والغربية من البلدة القديمة وشق طريق عبرها.
(4) نسف المناطق الشمالية والجنوبية من المدينة القديمة وشق طريق أخرى وسطها.
.
بدأ تنفيذ المرحلة الأولى بإطلاق نار كثيفة على أماكن القناصة العرب ومواقعهم من رشاشات الفيكرز ذات الكثافة النارية العالية والتأثير الفعال بالمقارنة بأسلحة الثوار البدائية. وقد استمرت تلك الاشتباكات 18 يوماً متواصلة حتى اليوم الذي بدأ فيه العمل لتنفيذ المرحلة الثالثة في 18/6/1936. وقد أدى نجاح المرحلة الأولى إلى تنفيذ المرحلة الثانية، فأمرت القوات البريطانية الوجهاء وأصحاب المحلات والسكان في المنطقة المعنية بعد تطويقها بإزالة مختلفة الحواجز والمتاريس في الشوارع وإعادة النظام إليها. واستيقظ سكان المدينة القديمة صباح يوم 16/6/1936 على دق أجراس وأصوات منادين ومنشورات تلقيها طائرة تتضمن قرار الحكومة البدء بعملية (تجميل المدينة). وهددت باستخدام القوة في حالة حدوث أي مقاومة لتنفيذ خطة الحكومة، ووعدت بدفع تعويضات مناسبة لأصحاب المساكن المنسوفة أو المتضررة.
بدأت أولى خطوات العملية عند الساعة الرابعة من صباح يوم 18/6/1936 بعد قيام إحدى كتائب المشاة بتطويق المنطقة وتفتيش كل من يغادرها، وقيام كتيبة أخرى بتأمين التغطية الضرورية لفرقة النسف، في حين وضعت سريتان من المشاة وسرية ثالثة مدرعة في الاحتياط، بالإضافة إلى البارجة الحربية “أكتيف” التي عهد إليها تأمين المنطقة المشرفة على البحر. وهكذا بدأت عملية النسف. وبحلول المساء تم شق طريق بعرض عشرة أمتار تمتد من مركز شرطة العجمي شرقاً حتى دير اللاتين غرباً.
أدى نجاح المرحلة الثالثة من العملية إلى البدء في تنفيذ المرحلة الرابعة بعد فترة قصيرة. وقد صرح بيرز بأن سبب السرعة في تنفيذ المرحلة الأخيرة من العملية كان من أجل عدم ترك أي مجال للمحكمة العليا للفصل في عملية النسف بعد قيام العرب برفع شكوى إليها بهذا الشأن.
استؤنفت أعمال النسف لإنجاز المرحلة الرابعة يوم 29/6/1936، وتم الانتهاء منها في اليوم التالي بعد تدمير بعض المناطق الواقعة شمالي المدينة وجنوبيها.
يتضح مما تقدم مدى التناقض في أهداف السلطات البريطانية المعلنة ونياتها الحقيقية في نسف المدينة القديمة. ويظهر مدى اعتدائها على السكان العرب وحقوقهم. وقد برز هذا واضحاً في إعلانها عن سبب واه وغير مقنع لنسف المدينة القديمة مرتين خلال شهر واحد، الأولى يوم 18/6/1936 والثانية يومي 29 و30/6/1936. وقد نسف في المرة الأولى 70 بيتاً تسكنها 150 عائلة، وفي المرة الثانية نحو 150 بيتاً تسكنها نحو 300 عائلة. وتمت إزالة حوالي 850 “براكة” خشبية في مناطق أخرى في المدينة يسكنها نحو 4.000 شخص. هذا بالإضافة إلى هدم وتشقق عدد كبير آخر من البيوت المجاورة. ويقدر عدد الذين أصبحوا بلا مأوى بعشرة آلاف نسمة. وقد تجاوز الضرر المدينة القديمة، وأصاب كنيسة الخضر الموجودة في حي العجمي إذ تصدعت بتأثير النسف بالديناميت. وأصيب مسجد الشيخ رسلان ودمر جزء من مئذنته وتناثرت الحجارة على كنيسة دير الروم مما سبب خراباً كبيراً في سطحها واتلافاً لبعض المصابيح المعلقة فيها. أما كنيسة دير اللاتين المعروفة بالقلعة فقد أثر فيها الديناميت تأثيراً كبيراً وأتلف محتوياتها وشوه منظرها الخارجي. ولم يزد التعويض الذي وعدت بريطانيا بتقديمه للمتضررين على عشرين مليماً لكل فرد من أفراد العائلة دون القيام بعمل يذكر في سبيل إيواء هؤلاء المشردين.
وقد كتب بيرز على أثرها لقيادته “إن القوات التي تعمل تحت قيادتي لم تعد قادرة على سحق التمرد بالسرعة المطلوبة، ولذلك أطلب إرسال كتيبتي مشاة محمولتين على الأقل ليصبح كل لواء مشكلاً من أربع كتائب بالإضافة إلى كتيبتي احتياط وفوج خيالة مفرزين للمهمات المحدودة، وخاصة في مناطق الأردن وبئر السبع”.
ويضيف بيرز قائلاً: “لقد بات من الضروري حتى يعود الهدوء بسرعة إلى البلاد وضع فرقة كاملة مؤلفة من ثلاثة ألوية، بما فيها القوات الموجودة أصلاً في البلاد يبلغ عددها 10.389 ضابطاً وجندياً، بما فيها القوات الجوية، تحت تصرف القائد العام. إضافة إلى السرب 33 القاذف المتمركز أصلاً في قاعدة الإسماعيلية بهدف تكليف عمليات القصف”.
.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]