الحياة الجديدة- هلا سلامة
عن يافا وأحلى الأيام فيها، عن ميناء وشراع، عن عاصفة هوجاء وريح وموج غاضب وقطعان غزاة، أخبرتني ليزا هنديلة (أم سليم) السيدة اليافاوية التي هجرها الاحتلال وأهلها عام 1948 من الوطن الذي بكته عقودا في بلاد اللجوء.
في دمع الشوق والأسى الذي يغزو عينيها ومحياها الجميل، تكمن تفاصيل الحكاية المريرة التي تدور رحاها بين فلسطين ومصر ومخيم مار الياس في لبنان حيث قضت أم سليم سنيّ عمرها في غربة عن كل افراد عائلتها.
بين الأحياء المطلة على بحر يافا ولدت وترعرت ليزا (أم سليم) في كنف أسرتها المكونة من عشرة افراد وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة الروم، والدها ميخائيل هنديلة خادم كنيسة الروم في البلدة القديمة في يافا وصاحب دكان صغير كانت تعتاش منه العائلة.
كان عمر ليزا 12 عاما حين هجمت العصابات الصهيونية على بيوت يافا ونكلت بأهلها في العام 1948. تقول: "وهل يخرج المرء بخاطره من منزله؟ لقد عمدوا على اقتحام المنازل وسرقتها وتعذيب الأهالي وتعريتهم من ملابسهم في الشوارع، مما اضطر والدي الى الهرب بنا، صعدنا في احدى الشاحنات برفقة أربع عائلات من المدينة، وصلنا الى غزة وبعدها الى رفح، ومن ثم الى مصر حيث كفلنا هناك اقارب أمي وعشنا في بيت استأجره ابي".
بالتوازي، كان الفتى نخلة طاس صديق طفولة ليزا وأحد أقربائها قد لجأ أيضا مع أهله من يافا الى لبنان، بعد حوالي العشر سنوات من شتاتهما، تبادل الشابان (ليزا ونخلة) صورهما بالمراسلة عن بعد، فكان الحب أقوى من كل ما فرقهما وبمباركة الأهل تزوجا وانتقلت ليزا للعيش في بيروت.
بداية سكنت ليزا في منطقة وطى المصيبة وبعدها في مخيم مار الياس منذ خمسين عاما، وأنجبت أولادها الخمسة سليم وتوفيق وماري واوجيني والياس واعتنت بهم مع زوجها نخلة الذي كان يعمل في النجارة وبعدها في وكالة الأونروا قبل ان يفارق الحياة منذ ما يقارب العشر سنوات ويترك ليزا في امانة اولادها.
تتقلب على سريرها متألمة من كسور في رجليها تمنعها من الحركة، وتقلب صورا بين يديها لأهلها وزوجها وابنها الياس الذي توفي في بريطانيا، تتابع: "عشت بعيدة عن أمي وابي واخوتي الذين توفوا في مصر، زرت مصر مرتين بعد انتقالي الى لبنان، بقي لي اخت واحدة، جورجيت زارتني في لبنان منذ عشر سنوات".
عبارات ترددها ليزا وهي تذرف الدمع وتوزعه على الوطن تارة وتارة على احبتها "عمرنا راح هيك.. كل عام كنا نقول هذا العام وكان يأتي أسوأ من قبله..عن ماذا أحكي؟ البحر، مدرسة حسن عرفة، الدكاكين، عائلات حلاق، ابو غزالة، خوري، اللبابيدي، الصايغ.. كنا في بيوتنا مبسوطين ومرتاحين.. اقفل البيت على ما هو، ممتلئا ببضاعة الدكان، حمل ابي المفاتيح الى مصر ومات هناك".
ام سليم التي لا تبحث في كلامها عن اي مقارنة بين الوطن والمخيم، وهي على اعتاب التسعين من العمر تحمل الصهاينة والعالم بأسره مسؤولية الجريمة البغيضة التي اجبرتها ان تعيش حياتها بعيدة عن اهلها وتسأل: هل أحد في هذا العالم يرتضي الحياة التي عاشها الشعب الفلسطيني ويصبر ما صبره في مخيمات اللجوء؟
ما زالت ام سليم تحلم بالعودة الى وطنها، "انما الصهاينة لا يؤتمن لهم" تردد.. لا شك انه شريط وحشية الاحتلال الذي لم يتبدد امام ناظريها وفي ذاكرتها القوية بعد 75 عاما وهي تختم لـ "الحياة الجديدة" بحسرة الوطن ووجع الشتات: "راحت منا بلادنا وبيوتنا، راح احبتنا، راحت الحياة.. لا تجرحوني اكثر".
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]